*أيها النيل سلاما ماجرى في الأرض ماء.* عادل عسوم
*أيها النيل سلاما ماجرى في الأرض ماء.*
عادل عسوم
(كتبتها وأنا اقف على شاطئ نهر السين في باريس).
كم يتبين المرء جمال وادهاش نيلنا الخالد عندما يقدر له الله الوثوف على نهر من أنهار هذه الكرة الأرضية،
وقد صدق كل من نظم وغنى لهذا النيل، ألا رحم الله الشاعر التجاني يوسف بشير والراحل عثمان حسين وقد مجداه في عمل فني باذخ بعنوان (في محراب النيل) أو (سليل الفراديس)…
يبتدر مبدعنا الاداء بايقاع تصحبه الكمنجات، يحاكي سريان الأمواه الميممة في عنفوان الى الشمال،
ثم يترى صوته المعتَّق بالجمال ليقول:
انت يانيييييل (في علو)…
ثم يختمها ب (ياسليل الفراديس) في خفوت كانما الامواج تتكسر على الشاطئ تداعب اوراق نبات اللوبيا المشرورة على الشاطئين تستحم ثم ترنو الى قرص الشمس تسبح الله…
في محراب النيل
الشاعر التجاني يوسف بشير.
أداء عثمان حسين
نَبِيلٌ مُوَفَّقٌ في مَسَابِكْ
بَيْنَ أَوْفَاضِكَ الْجَلالُ فمَرْحَى
بالْجَلالِ المُفِيضِ مِن أَنْسَابِكْ
حَضَنَتْكَ الأَمْلاكُ في جَنَّة الخُلْدِ
ورَفَّتْ علَى وَضِيءِ عُبَابِكْ
وأَمَدَّتْ عَلَيْكَ أَجْنِحَةً خُضْرًا
وأَضْفَتْ ثِيَابَها في رِحَابِك
فَتَحَدَّرْتَ فِي الزَّمَانِ وأَفْرَغْتًَ
عَلَى الشَّرْقِ جَنَّةً مِنْ رُضَابِكْ
بَيْنَ أحْضَانِكَ العِراضِ وفي
كَفَّيْكَ تارِيخُهُ وتَحْتَ ثِيابِكْ
مَخَرَتْكَ القُرُونُ تَشْمُرُ عَن سَاقٍ
بَعِيدِ الُخطَى قَوِيِّ السَّنَابِكْ
يَتَوَثَّبْنَ في الضِّفَافِ خِفَافاً
ثُمَّ يَرْكُضْنَ في مَمَرِّ شِعابِكْ
عَجَبٌ أنْتَ صَاعِداً في مَرَاقِيكَ
لَعَمْرِي أَوْ هَابِطَاً في انْصِبَابِكْ
مُجْتَلَى قُوَّةٍ ومَسْرَحُ أَفْكَارٍ
ومَجْلَى عَجِيبَةٍ كُلُّ مَا بِكْ
كَمْ نَبِيلٍ بِمَجْدِ مَاضِيكَ مَأْخُوذٌ
وكَمْ وَاقِفٍ عَلَى أَعْتَابِكْ
ذَاهِلاً يَكْحَلُ العُيُونَ بِبَرَّاقٍ
سَنَيٍّ مِنْ لُؤْلُؤيِّ تُرابِكْ
وصَقِيلٍ في صَفْحَةِ الماءِ فَضْفَاضٍ
نَدِيٍّ مُنَضَّرٍّ مِنْ إهَابِكْ
أيُّهَا النِّيلُ فِي الْقُلُوبِ سَلامُ
الخُلْدِ وَقْفٌ علَى نَضِيرِ شَبَابِكْ
أَنْتَ في مَسْلَكِ الدِّمَاءِ وفي
الأنْفَاسِ تَجْرِي مُدَوِّيًَا في انْسِيابِكْ
إنْ نُسِبْنا إلَيْكَ في عِزَّةِ الوَاثِقِ
رَاضِينَ وَفْرَةً عن نِصَابِكْ
أوْ رَفَلْنَا في عَدْوَتَيْكَ مُدِلِّينَ
عَلَى أُمَّةِ بِمَا في كِتَابِكْ
أَوْ عَشِقْنَا فِيكَ الجَلالَ فلَمَّا
نَقْضِ حَقَّ الذِّيَادِ عَنْ مِحَرابِكْ
أَوْ نَعِمْنَا بِكَ الزَّمَانَ فَلَمْ نَبْلُ
بَلاءَ الجُدُودِ في صَوْنِ غَابِكْ.
…
بتَدِرُ النيل خطوَه وئيدا يستمد عافيته من أمواه بحيرة فيكتوريا، ليشق طريقه متمهلاً في ارض المستنقعات الفسيحة، ويتلوى كثعبان أليف وهب جلده بطيب خاطر الى الناس ليحيلوه أحذية تقيهم الرمضاء، وحقائب تحفظ مقتنيات الحسان…
ثم يتبع سببا…
تلتقيه ألْسِنةٌ عن اليمين وعن الشمال تضخ في عروقه الأمواه، ويصبح نيلا (أبيضاً) تبرق وجنتاه في أشعة شمس وسط السودان، وإذا به بنت عشرين تدثرت ب(قرمصيص) الحياة، وعلى الرأس منها (ضريرة) تشي بإقبالها على عرس بهيج، وهي ترنو بعينين دعجاوين إلى قادم أسمر نُبِّئَت بأنه لامحالة ملتقيها، ليكتبا كتابهما، ويواصلان المسار في رحلة العشق السرمدية الى أقاصي الشمال، وما ان تصل الأمواه الى الخرطوم تتهياُ الدنا كلها للعناق!
يااااااااه
لان تغنى الناس للعناق الذي نعلم؛ فان عناق الأمواه لأمره عجيب!
ما ان تصل أمواه النيل الأبيض المتهادية في خفر فتاة الى سدرة منتهى عشقها، ينبري لها الأزرق القادم بعنفوان شاب مفتول العضلات من هضاب الشرق السمراء، يرْتَج صدرُهُ ب(كرير) أهلنا في بيداء البطانة، و(حِمبَي) الرعاة فيها وهو يمَنِّي النفس بلقاء حبيبة،
وتتخلق (توتي) بين يدي الكاف والنون الإلهية، تتقي بحقويها غلواء الأشواق المنبعثة من صدر الأزرق الدفاق المندفع الى اللقاء الحميم…
واذا بهما يناديان في الآفاق:
والتقيناااااا…
ليس في طريق الجامعة كما غنى السارقون للثورات والمزورون للتأريخ، وإنما في طريق الالفة والمحبة والتحنان الذي يوقد شموع الحراك الوضئ الثر الجميل…
عُد بي الى النيل لاتسأل عن التعب!
قالها راحلنا سيف الدسوقي وهو يقف ذات وقفتي هذه ولكن على نهر آخر:
عد بي الى النيل لا تسأل عن التعب.
الشوق طي ضلوعي ليس باللعب.
لي في الديار ديار كلما طرفت عيني
يرف ضياها في دجى هدبي
وذكريات احبائي اذا خطرت
احس بالموج فوق البحر يلعب بي
شيخ كأن وقار الكون لحيته
واخرون دماهم كونت نسبي
واصدقاء عيون فضلهم مدد
ان حدثوك حسبت الصوت صوت نبي
امي التي وهبت حرفي تالقه
تجئ رحمتها من منبع خصب
وان تغيب في درب الحياة ابي
قامت الى عبئها ايضا بعبء ابي
والناس في وطني شوق يهدهدهم
كما يهز نسيم قامة القصب
والجار يعشق للجيران من سبب
وقد يحبهم جدا بلا سبب
الناس اروع ما فيهم بساطتهم
لكن معدنهم اغلى من الذهب
عد بي الى النيل لا تسأل عن التعب
قلبي يحن حنين الاينق النجب
من كان يحمل يمثلي حب موطنه
يأبى الغياب ولو في الانجم الشهب
ثارت جراحي نيرانا يؤججها
عدو الرياح على قلبي وفي عصبي
كنا سماء تبث الخير منهمرا على البلاد
كقطر الديمة السكب
وكان موطننا عزا ومفتخرا
ما هن في عمره يوما لمغتصب
وقدوة لشعوب لا تماثلنا
في الحلم والعلم والاخلاق والادب
والكنز كان هو الانسان مكتملا
في محفل الجد لم يهرب ولم يغب
والنيل ان فاض اروتنا جداوله
وان تراجع جاد النخل بالرطب
والحب اروع ما في الكون نغزله
خيطا من الشمس او قطرا من السحب
والحنبك الفذ في الاغصان لمعته
ازرت بكل صنوف الكرم والعنب
والناس قااتهم طالت اذا هتفوا
بالشمس جيئي تعالي هاهنا اقتربي
جاءت على خجل حيرى تسائلهم
من ذا على النيل يا احباب يهتف بي
ماذا اصاب ضمير الناس في زمن
صعب كان به داء من الكلب
هذا زمان غريب كيف نعرفه
او كيف يعرفنا من زحمة الحقب
ارجع الي شباب العمر مؤتزرا
بالحب والوصل لا بالوعد في الكتب
وامسح عن القلب ما يلقاه من عنت
واغسل عن الوجه لون الحزن والغضب
فقد اعود كما قد كنت من زمن
فخر الشباب ورب الفن والادب
…
هذه لعمري قصيدة في قامة هذا النيل قدرا وجمالا!
ولا ادري لماذا لم يلتفت اليها مطربونا ليتغنوا بها؟!
اللهم أرحم عبدك سيف الدين الدسوقي واغفر له وافتح له في مرقده بابا من الجنة لايسد، انك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.
ويتم اللقاء في مقرن النيلين، ويُكتبُ كتاب الأزرق على الأبيض، فتصطف الأشجار على الضفتين تهش للعروسين، وإذا باللعوب من مائسات النخيل تغازلها الأنسام، تتراقص وتوزع (شبالات) فرحٍ من جريد، وبين هذه وتلك تترى أصوات القماري والبلوم (حَمْدو ربكم …حَمْدو ربكم)، ويتهادى النيل من بعدها لينثر على الضفاف النماء والخضرة، وأقف من خلف باب الزمن أنظر من كوَّته إلى حضارات تمددت على الشطين آلافا عديدة من السنوات من قبل الميلاد في سوبا والقماير، بدأ من حضارة كوش أول حضارات الدنيا وانتهاء بحضارة السلطنة الزرقاء المتدثرة بثوب الإسلام الوضئ…
وتترى الأشعار لتنبري الى خاطري رائعة إدريس جمّاع رحمه الله:
وادٍ من السحر أم ماء وشطآن
أم جنة زفها للناس رضوان؟
كل الحياة ربيع مشرق نضر
في جانبيه وكل العمر ريعان
تمشي الأصائل في واديه حالمةً
يحفها موكب بالعطر ريان
وللطبيعة شدو في جوانبه
له صدى في رحاب النفس مرنان
إذا العنادل حيا النيل صادحها
والليل ساجٍ، فصمت الليل آذان
حتى إذا ابتسم الفجر النضير لها
وباكرته أهازيج وألحان
تحدر النور من آفاقه طرباً
واستقبلته الروابي وهو نشوان
أقبلت من ربوةٍ فيحاء ضاحكة
في كل معنىً بها للسحر ايوان!
والنيل مندفع كاللحن أرسله
من المزامير إحساس ووجدان!
…
ومافتئ العروسان يغذان السير صوب الشمال، تتهادى الأمواه جذلى وتحفها الضفتان المكحولتان بخضرة الأشجار، ومافتئ صوت راحلنا عثمان حسين يتردد في أذني وهو يغني لراحلنا التجاني يوسف بشير:
فَتَحَدَّرْتَ فِي الزَّمَانِ وأَفْرَغْتً
عَلَى الشَّرْقِ جَنَّةً مِنْ رُضَابِكْ
بَيْنَ أحْضَانِكَ العِراضِ وفي
كَفَّيْكَ تارِيخُهُ وتَحْتَ ثِيابِكْ
مَخَرَتْكَ القُرُونُ تَشْمُرُ عَن سَاقٍ
بَعِيدِ الُخطَى قَوِيِّ السَّنَابِكْ
يَتَوَثَّبْنَ في الضِّفَافِ خِفَافاً
ثُمَّ يَرْكُضْنَ في مَمَرِّ شِعابِكْ
عَجَبٌ أنْتَ صَاعِداً في مَرَاقِيكَ
لَعَمْرِي أَوْ هَابِطَاً في انْصِبَابِكْ
مُجْتَلَى قُوَّةٍ ومَسْرَحُ أَفْكَارٍ
ومَجْلَى عَجِيبَةٍ كُلُّ مَا بِكْ
كَمْ نَبِيلٍ بِمَجْدِ مَاضِيكَ مَأْخُوذٌ
وكَمْ وَاقِفٍ عَلَى أَعْتَابِكْ
ذَاهِلاً يَكْحَلُ العُيُونَ بِبَرَّاقٍ
سَنَيٍّ مِنْ لُؤْلُؤيِّ تُرابِكْ
وصَقِيلٍ في صَفْحَةِ الماءِ فَضْفَاضٍ
نَدِيٍّ مُنَضَّرٍّ مِنْ إهَابِكْ
ويالصباحات عندما تلثم الخيوط البيض من الفجر أثداء الأمواج على أديم مياهك أيها النيل الحبيب…
وألا رحم الله طيبنا الدوش عندما غنى له راحلنا وردي فقال:
وفي صحْيَة جروف النيـل
مـع الموجَـهْ الصباحيَّـه
وقفتُ يوماً أتلمس برودة المياه بأطراف اصابع قدمي،
وإذا بسمكة تقفز من بين الأمواج تسبح الله وتكحِّل عينيها من خضرة الشطين، وتعاود ذات النسمة الطروب التلصص تبحث عن اللّعوب من فاتنات النخيل، فتميس لها في دلال وترقص مهفهفة بجريد لها وعراجين ثمار، ويحتشد المكان بشدو القماري وأسراب الزرازير الباحثة عن الرطب وثمار المانجو، ومن البعيد يتعالى خوار بقرة حلوب ونهيق حمار، وعلى البعد نسوة وسط الجروف يقطفن ثمار البامية …
والباذنجان…
والطماطم …
وبالجوار أصوات أطفال يتضاحكون ويلعبون بين أوراق الموز ويتقاذفون بثمار الليمون…
ف(يستِّفني) الأرتواء وتشفُّ روحي، ويتسع صدري ليسع كل الأنسام المشبعة بأوكسجين الأمواه…
وقلت أخاطب نهر السين:
أين أنت من نيلنا بالله عليك؟!
واختم بالقول:
الأمواه يا أحباب صنو الروح، كلاهما يتسامي الى عَلٍ، يتبخر الماء ليَصَّعَّدَ في السماء ليحيله الله سحابا ويجعله ركاما ثم يسوقه الى بلدٍ ميت فينداح فيها مطرا ينفع الناس والغرس والحيوان.
آمنت بالله.
adilassoom@gmail.com