منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

عارف الصاوي يكتب عن شراكة الحلو مع حميدتي: *صفقة العصفور والهواء: «تأسيس» السودان بين الوهم والذاكرة* 

0

عارف الصاوي يكتب عن شراكة الحلو مع حميدتي:

 

*صفقة العصفور والهواء: «تأسيس» السودان بين الوهم والذاكرة*

 

سبتمبر 5, 2025 |

عارف الصاوي

 

أعلن «تحالف السودان التأسيسي» يوم السبت الماضي عن تشكيل المجلس الرئاسي رسمياً في نيالا. وعلى ضوء هذا الحدث، خرج محمد حمدان دقلو إلى العلن مُؤدّياً القسم رئيساً لما سُمّي «المجلس الرئاسي لجمهورية السودان». تبعه عبد العزيز آدم الحلو نائباً له، ثم أعضاء المجلس الرئاسي، وأخيراً محمد حسن التعايشي رئيساً لوزراء حكومة «تأسيس».

مصدر هذا الحدث الأساسي هو صفحات ومنصّات التحالف وأعضائه المؤيّدين لـ«فخامة دولة محمد حمدان دقلو». لم يكلّف التحالف نفسه بدعوة الصحافيين إلى نيالا، ليشهدوا الحدث وينقلوا شهاداتهم مع الناس هناك. بدلاً من ذلك قرَّرَ أن يكتب قصّته بنفسه، وعلى الناس أن يُصدِّقوا شلالات الفرح في نيالا بتأسيس حكومة السودان الجديد.

بثّت منصّات التحالف صوراً وڤيديوهات لدقلو والحلو وهما يتجوّلان في شوارع نيالا، ويمسكان بأيدي بعضهما البعض في أبهى صور «الرومانسية السياسية»: هذه هي الصورة التي أراد التحالف أن يراها الناس؛ صورة مصنوعة، لا تحمل مضموناً حقيقياً سوى صداقة فجائية هبطت لتمحو تاريخاً من الصراع السياسي المُمتدّ لقرون، تغيّرت على أساسه حكومات وممالك.

يدّعي التحالف أنه أسّس حكومة وحدة وسلام من نيالا؛ حكومة تشمل مسؤولياتها جميع أنحاء السودان، تهمّها نيالا كما تهمّها شندي وكسلا والخرطوم. لكن هل هذا الأمر حقيقي؟، هل يملكون النيّة والقدرة والإمكانات بالفعل لتحمّل مسؤولية رفاهية السودانيين وتقدّمهم؟ أم أنه محض كلام في إطار الدعاية السياسية؟.

نصَّ القسم الذي ردّده أعضاء المجلس الرئاسي على أداء واجباتهم «بجدّ وأمانة وشفافية لترقية ورفاهية وتقدّم السودانيين»؛ كما التزموا بتوطين نظام الحُكم العلماني تلبيةً لرغبة عبد العزيز الحلو، الذي ظلّ يرفض أيّ حوار لا ينصّ على العلمانية في الدستور، بل وطالب أحياناً أن تكون «فوق الدستور». ذهبوا مع الحلو في علمانيّته إلى أقصى حدّ؛ فجاز له أن يُقسم على وعده الصادق دونما حاجةٍ إلى كتاب مقدّس؛ هي كلمته فقط.

بهذا تحوّلت العلمانية من قضية فكرية – كادت أن تتحوّل إلى قضية دستورية بموافقةٍ وقناعةٍ شعبية – إلى قضية مُبتذلة في دعاية قوات الدعم السريع. فضّل الحلو علمانيةً تحملها منصّات صواريخ الدعم السريع على علمانية تحرسها قناعة المجتمعات ووعي الناس. وهكذا تحوّلت العلمانية، على يديه، إلى قضية شخصية تخصّه في إطار خصومته السياسية. إنه أمر مُخيِّب لآمال الديمقراطيين السودانيين الذين طالما رأوا في الحلو حليفاً استراتيجياً للحكم الديمقراطي العلماني.

خيبة الأمل الثانية أصابت قضية شعوب النوبة في مَظلمتهم التاريخية بالتهميش السياسي والاقتصادي، إذ أذاب الحلو مشروعه التاريخي، وأدمجه في مشروع حميدتي الظرفي، دون تفسير واضح للفائدة المباشرة التي سيجنيها أهل النوبة، دَعْك من بقية أهل السودان. فما هي الجائزة التي حصل عليها الحلو لأجل قضية النوبة التاريخية؟ وعلى أيّ اعتبارات بنى قراراً بهذا التأثير؟.

لقد حمل النوبة السلاح من أجل قضية حقيقية، وناضلوا في حرب طويلة كان جوهرها الموارد والهوية. ومع أن دستور «تأسيس» الجديد أعاد تقسيم البلاد إلى أقاليم، إلا أنه لم يكلّف نفسه عناء ترسيم حدود هذه الأقاليم. وإذا كان تاريخ الدولة السودانية قد رَسَمَ حدودها بالعنف، فهل يكتفي أهل جبال النوبة اليوم بوعد الحلو الصادق؟ وهل يثمر هذه المرة؟.

في أيام الاحتفال بأداء القسم، خاطب قادةُ الحكومة حشداً جماهيرياً في نيالا، التي سمّاها الحلو «عاصمة السودان الجديد». لم تُمنح هذه الجماهير حقّ الاختيار، لكنها جاءت كما جاءت من قَبل إلى عمر البشير؛ لا خيار لها سوى الأمل بأن يكون الوعد صادقاً هذه المرة. ولهذا لا يَمنح احتشادها شرعيةً للحكم. لكنّ قادة التحالف لم ينتظروا الشرعية من الناس، فهم يرون أنهم يعرفون مصلحة الشعب أكثر مما يعرف هو نفسه؛ لذلك اجتمعوا في نيروبي وطبخوا كلّ شيء – مِن كيفَ يُحكم السودان إلى من يحكمه – حتى قَبل أن يزوروا نيالا.

وقف محمد حسن التعايشي بصفته رئيساً لوزراء جمهورية السودان، متعهّداً مع رفاقه بأنه سيبني «السودان الجديد» على أنقاض «دولة 56». لكنْ ما سبب غبينة التعايشي على «دولة 56»؟، وهو ابن جامعة الخرطوم – مصدر إلهام تلك الدولة – وابن حزب الأمّة، حزب الاستقلال، وقد عاش في بريطانيا على إرث تلك الدولة نفسها؛ كما كان على رأس اتحاد طلاب جامعة الخرطوم ضمن قائمة الأحزاب المعارضة للإنقاذ. إذا لم يفهم أهل نيالا سبب هذه «الغبينة»، فسوف يصعب عليهم الانخراط في مشروع التحالف.

حين جاء دَور الحلو، نائب حميدتي، ليتحدّث إلى أهل نيالا، بدا مُرتبكاً، وأفكاره غير واضحة. شعَر بضرورة تفسير تحالفه مع الدعم السريع، فقصّ عليهم كيف توصّل إلى هذا القرار: أنهما كانا على طرفَي نقيض والآن يُواجهان مصيراً مشتركاً. قال في اعتذار مُبطّن إنهم كانوا «عمياناً». ثم حكى قصة الثورين الأبيض والأسود وصراعهما مع الأسد، ومغزاها أن الأسد لم ينل منهما إلا بعد أن فرّق بينهما.

قال الحلو إنه تلقّى اتصالات من حكومة بورتسودان قبل تحالفه مع الدعم السريع، لكنه كشف هذه الاتصالات وشاركها مع حميدتي. وبرّر ذلك بأنّ ما يجمعهما هو «التهميش»؛ فكلاهما يُعانيان من تهميش «دولة 56». لكّن هذه محض دعاية تُخالف الواقع، إذ لم تكن قوات الدعم السريع مهمّشةً؛ بل إنّ قائدها كان حتى وقت قريب من أغنى رجال السودان، يمتلك بنوكاً وشركات تعدين وثروة حيوانية، وله فيالق من الجيوش في كل البلاد. كان ابن نظام الإنقاذ المدلّل، يبيع له الرجال، وقال مرة: «أنا بس ماسِكْ في طرف الرئيس» (ويقصد البشير).

لم يذكر الحلو تفاصيل تفاهماته مع الدعم السريع، واعتبرها «غير مُهمّة». المهمّ أن لا أحد يستطيع تفسير موقفه: لا رفاقه ولا العاملون معه ولا أهل السودان بالطبع. ما يُفسره هو أنها صفقة بين جنرالين، ومعهما صفوة لا تعرف قضيتها سوى قصاصة من فكرة مبعثرة اسمها «دولة 56».

حينما وعد التعايشي والحلو وقادة التحالف مواطني نيالا بأنّ التنمية والخدمات والكهرباء والعمارات والسكك الحديدية ستأتي غداً، كان ذلك وعداً خاوياً لا يتحقّق إلا بالسياسة والحوار، أو بالعنف المفرط.

ولا مناص للدعم السريع من العنف، إذ لا يقوم مشروعها إلا على أنقاض «دولة 56»، وما يترتّب على ذلك من هدمٍ للتجارب ومحوٍ للذاكرة الجماعية التي صنعت صورة السودان. ولن يتحقّق ذلك إلا بالعنف المفرط. وهو ذات العنف الذي أسّس به الحكم التركي سُلطته في السودان، فقاومه الناس تدريجياً حتى جاءت المهدية. ثمّ حينما أفرط الخليفة عبد الله في العنف، نفض الناس أيديهم عن الدولة المهدية وقاوموها وأضعفوها، كما حدث من قبل مع سوبا ودولة سنار.

«إنّ العصفور الذي يَضرب الهواء بجناحَيه لكي يطير، يتصوّر أنه لو لم يكن هناك هواء لكان طيرانه أسهل. الحقيقة أنه لو لم يكن هناك هواء لما استطاع أن يطير». نقل أدونيس هذا الاقتباس عن الفيلسوف «إيمانويل كانْت»، وأورده محمد سعيد القدّال في كتابه «الانتماء والاغتراب» (دار الجيل، 1992). ثمّ أورد القدّال تعليق محمود أمين العالم على تصوير «كانْت» في الاقتباس: «لا سبيل للتقدّم والإبداع من فراغ، لا سبيل إلا من خلال الذاكرة التراثية».

إنّ الأفكار لا تؤثر لجلالها أو سموّها أو عظمتها، وإنما لقدرتها على التعبير عن طموح الناس في مرحلة ما. أما قادة «تحالف السودان التأسيسي» فإنهم في وادٍ، وأهل نيالا في آخر.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.