منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

*هل تحوّل مجلس الأمن إلى ساحة هايد بارك ؟* بقلم السفير رشاد فراج الطيب

0

*هل تحوّل مجلس الأمن إلى ساحة هايد بارك ؟*

بقلم السفير رشاد فراج الطيب

فراج

من المفترض أن يكون مجلس الأمن الدولي هو التعبير الأسمى عن الإرادة الجماعية للأمم المتحدة ، وأن يمثل آلية العالم لحفظ السلم والأمن الدوليين . فهو الذراع التنفيذي للمنظمة و يمتلك الصلاحيات والموارد والمعلومات التي تخوله للتدخل الفعّال في بؤر النزاع ووقف الحروب قبل وبعد أن تستفحل . غير أن الواقع المؤسف يُظهر أن المجلس فقد جوهر وظيفته ، وتحوّل إلى منبرٍ للكلام والبيانات الإنشائية أكثر من كونه أداة للفعل والردع .

منذ نشأته بعد الحرب العالمية الثانية ، راكم مجلس الأمن سلسلة طويلة من الإخفاقات والعجز في مواجهة الأزمات العالمية. فالقضايا تتراكم ، والقرارات تُصدر ثم تُهمل ، والنزاعات تستمر دون حل . وأبرز الشواهد على ذلك عجز المجلس عن إنصاف القضية الفلسطينية ، رغم وضوح الحق وعدالة المطالب ، بل وحتى صدور قرارات عديدة من المجلس نفسه ومن الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ ثمانين عاما ! بقيت جميعها بلا تنفيذ أو أثر يُذكر .

ولم يقف هذا العجز عند فلسطين ونزاعات أخري وقضايا ، بل امتد ليطال السودان في محنته الراهنة. فقد فشل المجلس في آخر جلساته بشأن الأوضاع في الفاشر بولاية شمال دارفور ، حيث ارتُكبت جرائم حرب وانتهاكات بشعة على يد مليشيا “الدعم السريع” بعد سيطرتها على المدينة . عمليات قتل وذبح واغتصاب وتطهير عرقي ونهب وحرق للمدنيين جرت على مرأى ومسمع من العالم ، دون أن يصدر عن المجلس سوى أحاديث متكررة لا تتجاوز حدود البيانات الدبلوماسية .

لقد بدا مجلس الأمن يومها وكأنه نسخة دولية من حديقة هايد بارك الشهيرة في لندن ، حيث يُسمح لكل من يشاء أن يتحدث بما يشاء ، دون ضابط أو التزام . فبعض الدول الأعضاء تحدثت عن الحرب في السودان بجهل فاضح او تجاهل لطبيعتها ، بينما سعت دول أخرى إلى تزييف الحقائق وخلط الأوراق عمدًا ، وكأنها تشارك في عرضٍ دعائي لا في مؤسسة مسؤولة عن مصير الشعوب .

أليس من البديهي أن يبدأ المجلس من تقصي الحقائق الميدانية وعرض نتائجها قبل أن يخوض في النقاشات والمداولات ؟ أليس من واجب أعضائه التحلي بالنزاهة والموضوعية عند تناول قضايا بهذا الحجم ؟

إن ما جرى في السودان معروف وواضح وهو أن مجموعة مسلحة كانت ضمن الجيش السوداني ، مُؤتمنة على حماية الدولة ومرافقها ، ثم تمرّدت على الجيش واستولت على المواقع بالقوة ، واندفعت إلى الأحياء السكنية تمارس القتل والنهب والاغتصاب ، حتى هجّرت الملايين من المدنيين . وبعد ذلك أعلنت قيادتها أنها تخوض حربًا لإسقاط الدولة نفسها ، مستهدفة قبائل بعينها بالتهجير و بالإبادة ، موثقة جرائمها بالفيديوهات والمقاطع التي تفاخر بنشرها.

ثم تحول التمرد إلى عدوان خارجي بعد أن تلقّى دعمًا ماليًا وعسكريًا من دول إقليمية وخارجية معروفة لكل العالم ، سخّرت له السلاح والمرتزقة تحت ذرائع كاذبة عن محاربة “الإرهاب” أو “الإسلام السياسي”. ورغم هذا الوضوح الصارخ ، يخرج بعض ممثلي الدول ليطالبوا “الطرفين” بالجلوس للتفاوض والعودة إلى العملية السياسية وكأنها أزمة بين ندّين متكافئين !

أي منطق هذا ؟ وكيف يُطلب من دولة ذات سيادة وجيشها الوطني الشرعي الذي يقوم بواجبه الدستوري في فرض الأمن أن تفاوض جماعة تمرّدت وارتكبت جرائم حرب موثقة ؟ وكيف يُمنح الخارجون على القانون مشروعية التفاوض والمشاركة في مستقبل البلاد ؟
حتي بعد ان أعلنوا عن هويتهم واهدافهم بسلوكهم الهمجي والاجرامي .

بهذا المنهج ، تحوّل مجلس الأمن إلى هايد بارك عالمي كبير ، ساحة مفتوحة للكلام ، يتحدث فيها الجميع عن كل شيء ، ولا أحد يتحمل مسؤولية شيء .

لم يعد مجلس الأمن مركزًا لإرادة العالم في مواجهة العدوان والظلم ، بل منتدى للثرثرة السياسية وتبادل المواقف الممجوجة.

إنه مشهد يدعو إلى الدهشة والأسى في آنٍ واحد المجلس الذي أنشئ ليحمي العالم من الفوضى ، أصبح هو نفسه عنوانًا للفوضى والعجز ، وبدل أن يكون أداة لحماية المظلومين ، غدا منبرًا يبرر للمعتدين ، ويغض الطرف عن الضحايا .

كان على مجلس الأمن ، إن كان جادًا في القيام بمسؤوليته ، أن يتخذ إجراءات واضحة وحاسمة منذ اللحظة الأولى لظهور التمرد المسلح في السودان .
أول تلك الإجراءات إدانة التمرد بصفته عملاً عدوانيًا ضد دولة ذات سيادة ، ثم فرض عقوبات صارمة على قادته ومن يدعمهم بالمال والسلاح . وكان عليه أن يوجّه بعثة تحقيق دولية مستقلة لتوثيق الجرائم التي ارتكبت في الفاشر ودارفور وغيرها من المناطق ، تمهيدًا لإحالة المتورطين إلى العدالة الدولية .

كما كان من واجب المجلس أن يعمل على منع تدفق السلاح والمرتزقة عبر الحدود ، وأن يعلن بوضوح أن الحكومة الشرعية في السودان هي الطرف الشرعي ، وأن أي دعم عسكري أو سياسي للمليشيا يعد انتهاكًا لميثاق الأمم المتحدة واعتداءً على السلم الإقليمي والقانون والقرارات الدولية .

لو فعل المجلس ذلك لأمكن لجم هذه الجماعة المنشقة واحتواؤها في مهدها ، قبل أن تتفاقم الكارثة ، وتُزهق الأرواح ، وتُدمر المدن ، ويُروّع السكان . أما وقد اختار الصمت والجدل ، فقد ساهم عن قصد أو عجز في إطالة أمد المأساة وشرعنة الفوضى .

لقد آن الأوان لأن يدرك العالم أن السكوت على الجريمة جريمة ، وأن الهيئات الدولية إن لم تنهض بمسؤولياتها الأخلاقية والقانونية ، فستتحول إلى مجرد حدائق للكلام واصدار البيانات التي لا وزن لها في ميزان العدالة والحق .

والسؤال هل تحول مجلس الأمن فعلا الي ركن للكلام في حديقة هايد بارك ؟

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.