منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

*الجواسيس.. عيون الخيانة في المدن الآمنة* بقلم د إسماعيل الحكيم

0

*الجواسيس.. عيون الخيانة في المدن الآمنة*

 

بقلم د إسماعيل الحكيم

 

_Elhakeem.1973@gmail.com_
لا تقتصرُ خطورةُ العدوّ على من يرتدي زياً عسكرياً أو يحملُ سلاحاً. لكنّ خطراً آخر يتربّص بمدننا الآمنة وهو جواسيسٌ وخلاياٌ نائمةٌ صرفت ضمائرَها في سوقٍ نَفَدت مِنه الأمانة، وباعَت منْزِلَ الوطن بحفنةِ دراهمٍ لا تُشبعُ ولا تُرضي. هذا العدوُّ الخفيّ أقرب، وأخطر، وأقسى أثرًا على النسيج الاجتماعي من أي تهديدٍ ظاهر. تقارير وتحذيرات محلية وإقليمية تتناول مسألة «الخلايا النائمة» وخطرها على استقرار الولايات والمدن الآمنة.
لا نريد هنا لفظَ كلمةٍ خفيفةٍ تُطمسُ حقيقةَ الجرم وتقزّمه بعضُ الناسِ يسمّونهم «متعاونين»، لكن اللغةَ لا تحتملُ الترخيصَ للخيانةِ. هؤلاءُ ليسوا متعاونين بمعنى المواطنة الإيجابية، بل هم خونةٌ، متخاذلون أغمضوا أعينهم عن مصلحةِ وطنهم، وباعوا تحديدَ مواقع المنشآتِ الحيوية والخدماتِ الاستراتيجية لمن يدفعُ أكثر — ومعظمُ ما دفع لهم كان صفراً أمامَ ثمنِ الوطن. إنّ هذه الظاهرةَ ليست مجرد جرائمٍ فردية؛ بل هي جزءٌ من استراتيجيةِ تقويضٍ تهدفُ إلى ضربِ قنواتِ الحياة في المدن المطمئنة أهلها فمحطاتُ مياه، مستشفيات، مراكزُ شرطة، منشآتُ كهرباء — كلُّها أهدافٌ تُعرَّفُ بإحداثياتٍ تُرسل من جهةٍ تُريدُ الدمار. تقارير حقوقية ومنظمات دولية أكدتْ تصاعدَ الهجماتِ وانعكاسَها المدمر على المدنيين، مما يستدعيُ يقظةً وطنيةً حازمةً.
الدولةُ تتحمّلُ المسؤوليةَ الأولى والأكبر. لا يكفيها الإعلانُ عن الحزمِ فحسب بل يلزمُها إقرارُ عقوباتٍ فوريةٍ ورادعة، تظهرُ أمامَ الناسِ علانيةً ليشهدَ الجميعُ أنَّ الخيانةَ لا تمرُّ بلا حساب. وعلى الأجهزةِ الأمنية والعدلية إعمالُ القانونِ بصرامةٍ ،كشفُ الخلاياٍ، توقيفُ المتورطين، محاكماتٌ شفافةٌ، وإجراءاتُ تأديبيةٌ لا تتركُ ثغراتٍ للعودةِ إلى الاعتداء. كما أن التدابيرَ الاستباقيةَ — من حملاتِ تفتيشٍ محكمةٍ إلى مراقبةِ شبكاتِ التواصلِ المشبوهة — يجبُ أن تُعزَّزَ بقوة. فإن تقارير محلية أوردتْ حملات ضبطٍ استهدفتْ خلايا نائمةٍ في الريفِ وبعضِ المدن، وهذا مسارٌ يجبُ أن يتوسعَ ويُدعمَ قانوناً ومؤسساتٍ.
لكن الدولةَ وحدها لا تكفي. المجتمعُ هو خطُّ الدفاعِ الأول والأقوى؛ فالمواطنُ الذي يرفعُ يقظتَهُ ويبلغُ عن حركةٍ مريبةٍ أو اتصالٍ مشبوهٍ هو منقذٌ لحيِّه ووطنه. هكذا يصبح الإبلاغُ واجبًا وليسَ نفلاً . لذلك أقترحُ — عملياً وقابلاً للتنفيذ فورًا — أن تعلنَ الدولةُ رقماً مجانياً ومحمياً لتلقي البلاغات الأمنيّة، مع ضماناتٍ لحمايةِ المبلّغ وإخفاءِ هويته، وإجراءاتٍ سريعةٍ للتحقّقِ والمتابعة. هذا النظامُ سيحوّلُ الشعبَ من شاهدٍ مُبصرٍ إلى شريكٍ فاعلٍ في حمايةِ الوطن.
وللدورِ الثقافي والدينيِ أثرٌ بالغُ في تحصينِ المجتمع. فعلى الدعاةِ والأئمّةِ والخطباءِ توعيةُ الناسِ بخطورةِ الخيانةِ وأثرها على الأسرةِ والحيِّ والأجيالِ القادمة. الخطابُ الدينيُّ الأخلاقيُّ الذي يُذكّرُ بالعهودِ والمسؤولياتِ تجاه الوطنِ يمكنُ أن يعيدَ للبعضِ بوصلةَ الضميرِ التي افترّت. إنّ تحريكَ الموعظةِ الصادقةِ في المساجدِ والمنتدياتِ وقنواتِ التواصلِ يساهمُ في إعادةِ بناءِ شعورِ المواطنةِ والواجبِ.
كما ينبغيُ أن تُبنى حملاتُ إعلامٍ وطنيٍّ هادفةٍ، لا تسعى للتشهيرِ بلا دليلٍ، بل تُعلّمُ الناسَ كيفَ يميّزونَ الإشاراتِ الحمراء مثل اتصالاتٌ متكررةٌ من أرقامٍ مجهولةٍ، استفساراتٌ عن مواقعِ خدماتٍ لا علاقةَ للمستفسِر بها، عرضُ أموالٍ كبيرةٍ على مرسَلٍ لا عملَ له، أو سلوكٌ مفاجئٌ وتغيّرٌ في نمطِ الحياة. التثقيفُ الأمنيُّ يجعلُ من كلّ مواطِنٍ نظام رصدٍ فعالاً، وفي الوقتِ ذاتهِ يحمي الأبرياءَ من الاتهاماتِ الظالمةِ.
لا يَسَعُنا أن نَتمطَّى في النُخبةِ اللغويةِ ونحن نشهدُ تَقهقرَ أُسسِ الأمانِ. إنّ معركةَ حمايةِ الداخلِ لا تقلّ أهميّةً عن معاركِ الميدانِ فخسارتُها تعني مُستقبلًا هشًّا ودماءً مضروبةً على مذبحِ السذاجةِ والمالِ الرخيص. ولذا يجبُ أن تكونَ مبادرتُنا وطنيةً شاملةً سياساتٌ صارمةٌ، مجتمعٌ يقظٌ، ورؤيةُ توعويةٍ تمتدُّ من المساجدِ إلى المدارسِ وإلى كلِّ بيتٍ سوداني.
والعاقبة ان من يبيعُ مواقعَ حياةِ الناسِ لا يُسَمَّى متعاوناً بل عارٌ على تاريخهِ ووصمةٌ على ضميرِه. ردُّ الدولةِ ووعيُ المجتمعِ هما المعمولُ الذي سيُبطلُ مفعولَ هذه الخلاياِ، ويُعيدُ للمواطنِ حريتهُ وأمانَهُ. فالأوطانُ تحفظُ بأيدي أبنائها الصادقين، وبقوةِ القانونِ، وبصوتِ الواعينَ في المساجدِ والساحاتِ والبيوتِ بل وفي الفضاء الإسفيري الممتد..

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.