*هل غابت الأحزاب عن معركة الكرامة ام تم تغييبها ؟* بقلم السفير/ رشاد فراج الطيب
*هل غابت الأحزاب عن معركة الكرامة ام تم تغييبها ؟*
بقلم السفير/ رشاد فراج الطيب

في ذروة معركة الكرامة ، وفي اللحظة التي كان يُفترض فيها أن ترتفع أصوات الأحزاب السياسية وتتحرك قياداتها دفاعاً عن الوطن ومجتمعه المنكوب ، اختفت الأحزاب ، وخفت صوت السياسيين ، بينما برز أصحاب الأقلام والكتاب الصحفيون وأصحاب المنصات واللايفات كنجوم المشهد السياسي بلا منازع .
تحول الإعلاميون والناشطون إلى قادة رأي وتوجيه ، وتقدموا الصفوف في معارك الدفاع عن الجيش ، وفي تصحيح السرديات المضللة التي سعت جهات عدة إلى بثّها في الداخل والخارج .
فأصبح الإعلام ساحة الفعل ، وأضحى الناشطون خط الدفاع الأول عن الرواية الوطنية ، فيما انزوت الأحزاب خلف جدران الانقسامات والتجاذبات البائسة .
الأحزاب التي كان يُنتظر منها أن تكون رافعة للفعل السياسي ومصدراً للمبادرة اختارت الغياب أو لعلها لم تستطع غير ذلك .
فقد شاخت هياكلها ، وتشظت قواعدها ، وتفككت مؤسساتها التنظيمية ، فانصرف كبار قادتها إلى صراعات داخلية لا تنتهي ، وغرقوا في خلافات أيديولوجية وتنظيمية لم تعد تلامس هموم المجتمع ولا تحديات الدولة ولا أوضاع الحرب وما بعدها .
وكثرة الأحزاب لم تصنع تعددية ، بل صنعت ضعفاً ؛ فالأحزاب السودانية التي تجاوز عددها الحد الطبيعي تحولت إلى كيانات هشة ، محدودة التأثير ، عاجزة عن إنتاج خطاب يقنع الناس أو عن تقديم مبادرة سياسية معتبرة أثناء الحرب .
ومع أن البلاد كانت تعيش لحظة استثنائية تتطلب حضوراً مضاعفاً ، اختفت تلك الكيانات عن مواقع القول والفعل والواجب ، وتركَت الميدان فارغاً لغيرها .
يُطرح هنا سؤال جوهري ، هل اختفت الأحزاب بإرادتها أم بفعل فاعل ؟
الإجابة مركّبة ؛ فهناك جزء من الغياب اختياري ، إذ أدركت الأحزاب أنها استهلكت رصيدها الشعبي ولم تعد تمتلك القدرة على مخاطبة جماهير الحرب أو التأثير في مسار الأحداث ، ففَضلت الصمت على المغامرة .
وجزء آخر كان بفعل الظروف ، إذ تراجع التمويل ، وانقطعت شبكات الاتصال والتنظيم ، وضعفت الآلة الحزبية التي كانت تقوم على الاجتماعات المباشرة والاحتشاد الجماهيري ، وهي أدوات انهارت في ظل حرب شاملة .
ومع ذلك ، فإن التغييب السياسي المتعمد ليس بعيداً عن المشهد ، فالحرب أعادت تشكيل موازين القوة ، وأضعفت المؤسسات المدنية ، وسمحت بصعود قوى جديدة لم يكن للأحزاب التقليدية مكان في خرائطها .
ولأن الفراغ لا يبقى فارغاً ، وحين يفتقد المجتمع الصوت السياسي المنظم ، يبحث عن من يفسر له الأحداث ويوجه بوصلته .
هنا وجد الإعلاميون والكتاب والناشطون أنفسهم أمام مسؤولية وطنية ، الدفاع عن السردية الوطنية ، دعم الجيش ، مواجهة التضليل ، وتوجيه الرأي العام .
امتلكوا أدوات العصر ، الكاميرا ، المقال ، البث المباشر ، سرعة التفاعل ، والوصول للجماهير في الداخل والخارج ، بينما بقيت الأحزاب عالقة في أدوات القرن الماضي .
ولم يقتصر الغياب على الساحة السياسية ، بل طال أيضاً المبادرات المدنية والعمل الإنساني ، إذ غابت الأحزاب عن حملات التعبئة الشعبية ، وعن المبادرات الوطنية ، وعن العمل الإنساني الذي كان يحتاج تنظيماً وقيادة ، تاركة فراغاً كبيراً ملأته لجان الأحياء والمبادرات الشبابية ومنظمات المجتمع المدني الصغيرة ، بينما اكتفت الأحزاب الكبيرة بإصدار بيانات لا يقرؤها سوى عدد محدود من الناس .
وتتمثل علل الأحزاب السودانية ، التي جعلتها كثيرة العدد قليلة التأثير ، في غياب البناء المؤسسي ، وسيطرة الأجيال القديمة على مواقع القيادة ، وغياب الرؤية السياسية الواقعية ، وانفصال الأحزاب عن المجتمع وعدم قدرتها على مخاطبة قضاياه أو ملامسة همومه اليومية .
وهذه العلل لا يمكن تجاوزها إلا بإعادة بناء الأحزاب على أسس حديثة ، تبدأ بتحديث الهياكل وإعادة صياغة اللوائح بما يضمن الشفافية والتداول والمساءلة ، وإطلاق مشروعات سياسية وطنية تستوعب تحديات الدولة وحاجات المجتمع ، وإفساح المجال للشباب والمهنيين ، ثم العودة للمجتمع بخطاب واقعي وبرامج عملية ، ليتم تحويل العمل السياسي من مجرد جدل إعلامي إلى عمل مؤسسي راسخ .
ويحتاج الأمر بالضرورة إلي مراجعة القانون المنظم للأحزاب ليكون أكثر ضبطا لشروط إنشاء الأحزاب ومطابقتها لمعايير صارمة تضمن شفافيتها وفعاليتها والتزامها بمباديء الوطنية والسيادة والديمقراطية والاستقلال السياسي .
أما العلاقة بين السلطة الحاكمة والأحزاب ، فهي علاقة ملتبسة تتراوح بين الشك المتبادل والغياب التام للتنسيق .
السلطة تنظر إلى الأحزاب بوصفها إما عبئا أو شيئا من بقايا الماضي ، والأحزاب تنظر إلى السلطة باعتبارها خصماً يحتكر المجال العام والسلطة والموارد .
المطلوب هو علاقة أكثر نضجاً ، سلطة تستوعب الدور الوطني للأحزاب ، وأحزاب تدرك أن دورها ليس الصراع من أجل المواقع وحسب ، بل يتعدى ذلك الي المشاركة في بناء مشروع وطني يساند الدولة في مواجهة التحديات الوجودية .
إن معركة الكرامة كشفت هشاشة الواقع الحزبي السوداني ، وبيّنت أن الإعلاميين والناشطين ، رغم أدوارهم المشهودة ، لا يمكنهم أن يكونوا بديلاً دائماً عن الأحزاب ، فالدولة تحتاج القوى السياسية التي تشكِّل العقل السياسي وتقدم المبادرات وتتحمل المسؤولية وتصنع البدائل .
وإذا لم تعِ الأحزاب درس هذه الحرب درس الغياب فإنها ستجد نفسها خارج التاريخ ، بينما سيبقى الفعل السياسي الحقيقي في يد من امتلك أدواته من الفاعلين الإعلاميين والكتاب وصنّاع الرأي العام وملاك المنصات الرقمية وغيرهم .
