*أمريكا والحلفاء : إسرائيل والجنجويد براءة !* رشاد فراج الطيب
*أمريكا والحلفاء : إسرائيل والجنجويد براءة !*
رشاد فراج الطيب

رفضُ الكونغرس الأميركي مؤخراً مقترحاً تقدم به أحد أعضاء مجلس الشيوخ لإلزام الإدارة الأمريكية بدراسة تصنيف مليشيا الدعم السريع كمنظمة إرهابية – اذا صح الخبر – جاء كاشفاً مرة أخرى ، لعمق الازدواجية الغربية وسقوط المعايير الأخلاقية التي طالما تباهت بها القوى الكبرى .
ولم يقف الأمر عند حدود الكونغرس وحده ؛ فحتى الآن لا الإدارة الأميركية ، ولا دول أوروبا ، ولا دولة واحدة تدور في فلك النفوذ الأميركي عربية كانت أو إسلامية ولا حتى منظومة الأمم المتحدة نفسها ، تجرؤ على وصف هذه المليشيا بالجماعة الإرهابية ، رغم ولوجها الفاضح في دماء السودانيين الأبرياء ، ورغم الكم الهائل من الجرائم التي تجاوزت حدود أي توصيف سياسي أو قانوني .
وهذه الحقيقة وحدها تكفي لتوضح البنية التي يقوم عليها هذا المقال ، أن الغرب سقط أخلاقياً قبل أن يسقط سياسياً ، وأن الأقنعة التي طالما اختبأ خلفها لم تعد قادرة على حجب حقيقة حضارةٍ بائرة فقدت صلتها بالعدل والضمير .
لقد ظل الغرب لعقود يضع نفسه في موضع الحَكم والمشرّع ، يوزع صكوك الشرعية ويحدد من هو المتحضر ومن هو المتخلف ، من يستحق الدعم ومن يستحق العقاب .
لكنه كلما خضع لامتحان أخلاقي ، تكشفت مواقفه عن نظرة مصلحية بحتة ، تُغلّف بالأيديولوجيا حيناً ، وبخطاب حقوق الإنسان حيناً آخر .
فكيف يمكن لحضارة تزعم قيادة الإنسانية أن تعتبر كياناً قام على ثمانية عقود من الإبادة والتهجير والقهر نموذجاً للديمقراطية ؟
أي قيم تُجيز التغاضي عن سحق شعب كامل ، وقصف المدن ، وتهجير الأطفال ؟ ومع ذلك يستمر الغرب في دعم الاحتلال ، ويجعل منه شريكاً في “القيم المشتركة” ، بينما يصنف كل مقاومة للاحتلال إرهاباً حتى لو كانت دفاعاً عن الحق في الحياة .
واليوم يعيد الغرب إنتاج المنطق ذاته في السودان .
فبرغم الجرائم الموثقة التي ارتكبتها مليشيا الدعم السريع من قتل واغتصاب ونهب وتطهير عرقي مشهود وموثق من قبل المليشيا نفسها ، ومن قبل المنظمات الدولية والجامعات المرموقة وآخرها جامعة ييل الامريكية التي وثقت جرائم الإبادة التي ارتكبتها عصابة الجنجويد عقب سقوط مدينة الفاشر .
وسبق ذلك ولحق به إبادة ضد قبيلة المساليت علي أساس عرقي وفي مدينة بارا وقرية ود النورة في ولاية الجزيرة وقصف أطفال قرية كالوقي
واستهداف المستشفيات والمساجد والأسواق ومحطات الكهرباء والمياه وتجمعات المدنيين ومنازلهم .
بعد كل ذلك يتردد الغرب في اتخاذ موقف واضح ، وكأن دم السودانيين لا يستوفي المعايير الأخلاقية للتعاطف الغربي .
بل إن بعض القوى الغربية تذهب إلى تبرير تلك الجرائم لأنها موجّهة ضد جيش لا ينسجم مع أولوياتها الأيديولوجية أو السياسية وتمارس الضغط علي حكومة السودان وجيشه الذي يقوم بواجبه الوطني والدستوري في فرض الأمن وصد العدوان أن يوقف اطلاق النار ويتفاوض مع أولئك القتلة الإرهابيين !
وهكذا يتحول ميزان الأخلاق إلى مسطرة سياسية لا علاقة لها بعدالة القضية .
ومن هنا يصبح رفض الكونغرس الأميركي حتى مجرد دراسة تصنيف الدعم السريع جماعة إرهابية ، وعدم جرأة أي دولة أوروبية أو عربية أو إسلامية متحالفة مع الغرب ، فضلًا عن الأمم المتحدة ومجلس أمنها على اتخاذ خطوة رمزية في هذا الاتجاه ، امتداداً طبيعياً لمسار طويل من الازدواجية الأخلاقية التي تحكم سلوك الغرب وحلفائه ومؤسساته اللاعدلية .
فالتوصيف لا يُبنى على شناعة الجريمة ، بل على موقع الجاني في خارطة المصالح والنفوذ ، لا على دماء الضحايا ، بل على هوية من يناصبهم العداء أو الإختلاف .
لقد صنّف الغرب منذ سنوات كل تيار ينتمي إلى ما يسمونه بالإسلام السياسي أو التيارات المناهضة للهيمنة والاحتلال عدواً ، وكل من يرفض الوصاية تهديداً يجب تحييده .
وحتى الأنظمة الحليفة له تسير في الفلك ذاته ، صمت مخجل حيناً ، وتواطؤ مشين حيناً ، وتباطؤ حين تكون كلمة الحق مكلفة في ميزان المصالح .
وفي ضوء ذلك يبرز المشهد على حقيقته ، الغرب لم يعد يمثل منظومة قيم ، بل منظومة مصالح تُدار ببراغماتية قاسية وازدواجية بغيضة.
الحضارة التي تغنّت عقوداً بحقوق الإنسان وحرية الشعوب لم تعد تملك القدرة على إخفاء تناقضاتها الفاضحة .
ولم يعد العالم مقتنعاً بأن الغرب ما يزال الحارس الأخلاقي للقيم الإنسانية ، بعدما رأى سقوطه الأخلاقي في فلسطين والسودان وسواهما من مواضع المحنة .
لقد سقطت الأقنعة ، وسقطت الهالات الكاذبة التي أحاطت بها القوى الغربية نفسها ونصبت نفسها سيدة علي شعوب العالم .
وما يجري اليوم هو تحول تاريخي يعيد تشكيل وعي الشعوب ، ويكرّس نهاية الوصاية اللا أخلاقية الغربية ، وبداية عالم جديد يدرك فيه الجميع أن العدالة لا يهبها من يفتقدها ، وأن الحرية لا يستوردها من صادرها ، وأن الحضارة التي فقدت أخلاقها فقدت حقها في قيادة العالم ، مهما بلغت قوتها واستكبارها أو حديثها الكذوب .
