*تظاهرات جنوب الخرطوم… رسائل مكشوفة في توقيت مريب* د. إسماعيل الحكيم..
*تظاهرات جنوب الخرطوم… رسائل مكشوفة في توقيت مريب*
د. إسماعيل الحكيم..

_Elhakeem.1973@gmail.com_
تظاهرات جنوب الخرطوم التي خرجت تحت لافتة الاحتفاء بما يُسمّى بثورة ديسمبر لم تكن سوى مشهدٍ عابر في ظاهرِه، خطيرٍ في جوهره، محمّلٍ برسائل تتجاوز الشعارات إلى ما هو أعمق وأبعد أثرًا. فقد جاءت هذه التحركات في توقيتٍ بالغ الحساسية، وفي تحدٍّ سافر لتوجهات الدولة، وتصادمٍ واضح مع ما أعلنه رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، حين أكد – في مؤتمر الخدمة المدنية المنعقد في أبريل المنصرم بمدينة بورتسودان – أن عهد الفوضى قد انتهى، وأن الدولة ماضية في ترسيخ هيبتها، ولا مجد فيها للمتاريس، بل للقوة التي تحمي الوطن وتصون وحدته.
خطورة تظاهرة الأمس لا تكمن في عدد المشاركين ولا في هتافاتهم المكرورة، ولا إستهدافهم للشرطة وهي تحتفي بعيدها الحادي والسبعين وإنما في سياقها الزمني ورسائلها السياسية. فقد سبقتها تصريحات رسمية بالسماح لكل سوداني – حتى من كانت له إدانة – باستخراج أوراقه الثبوتية، في خطوة إنسانية وقانونية تهدف إلى إعادة ترتيب الداخل، ولمّ شتات المجتمع بعد الحرب. غير أن استغلال هذه الأجواء لبث رسائل مضادة للدولة يثير تساؤلات مشروعة حول الجهات التي تقف خلف المشهد وتديره من الظل.
وأخطر هذه الرسائل، أن الجناح السياسي للمليشيا المتمردة ما يزال يتحرك بحرية مطلوقاً اليد ، متحديًا الدولة وإرادة شعبها، وممارسًا نشاطه وكأن مؤسسات الحكم غائبة أو منزوعة السيادة. وهو واقع إن صحّ، فإنه يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي، لا يقل خطرًا عن فوهات البنادق في ميادين القتال.
أما الرسالة الثانية، فهي أن ما جرى ليس حدثًا معزولًا، بل امتدادٌ لما يُعرف بـ«الخلايا النائمة»، تلك التي حذّر منها مدير جهاز الأمن والمخابرات وما تزال كلماته في الأذان تتردد، واعتبرها المفضل الخطر الأعظم على السودان، لأنها تعمل في الخفاء، وتضرب في التوقيت الخطأ، وتستهدف الروح المعنوية للدولة قبل مؤسساتها.
كما لا يمكن إغفال أن هذه التظاهرات تمثل محاولة لجسّ نبض الحكومة، وقياس مدى حزمها في التعامل مع مثل هذه الظواهر، باعتبارها مؤشرًا يُبنى عليه قرار التمدد أو التراجع. فالتهاون هنا لا يُقرأ تسامحًا، بل يُفسَّر ضعفًا، والضعف في مثل هذه المراحل ترف لا تملكه الدول الخارجة من أتون الحرب.
غير أن المشهد لم يخلُ من بارقة وعيٍ تبعث على الطمأنينة. فقد قوبلت هذه التحركات باستنكار شعبي واسع، عكس تحوّلًا عميقًا في وعي الشارع السوداني، الذي خبر الخديعة، ودفع أثمانها دمًا ودمارًا، ولم يعد مستعدًا لأن يُلدغ من ذات الجحر مرة أخرى. شعبٌ أدرك أن الشعارات البراقة لا تبني وطنًا، وأن الفوضى لا تُنتج حرية، وأن الدولة – مهما اشتدت – تبقى أرحم من غيابها.
إن العهد سيتجدد مع الشهداء المرابطين، أولئك الذين كتبوا بدمائهم معنى البقاء، ورسخوا أن الأوطان لا تُدار بالهتاف، بل تُحمى بالتضحيات. أما العمالة والخيانة، فمكانها الطبيعي مزبلة التاريخ، حيث تُرمى كل المشاريع التي راهنت على خراب السودان وسقوطه.
