حوارات حول الأفكار(175) / ✍️حيدر معتصم مدني ⭕سلسلة مقالات في فكر الثورة:: (2-10) *(أزمة غياب المؤسسات) من (الفراغ المجتمعي) إلى (إختطاف الدولة)*
حوارات حول الأفكار(175) /
✍️حيدر معتصم مدني
⭕سلسلة مقالات في فكر الثورة:: (2-10)
*(أزمة غياب المؤسسات) من (الفراغ المجتمعي) إلى (إختطاف الدولة)*

*مقدمة* :
بعد أن وضعنا في المقال الأول الأساس النظري لفكرة أن الثورة الحقيقية تبدأ من بناء المؤسسات المجتمعية قبل لحظة الانفجار الثوري، يصبح السؤال الجوهري الآن
لماذا يفتقد السودان أصلًا لهذه المؤسسات؟
ولماذا تظل الإرادة الشعبية بلا سند يحميها، فتتكرر دورة الاختطاف بعد كل ثورة؟
هذا المقال يقدّم التشخيص البنيوي الذي يُفسّر الخلل من جذوره، ويوضح كيف أدى غياب المؤسسات إلى تحويل الدولة السودانية، منذ الاستقلال، إلى فضاء مفتوح أمام النخب والميليشيات والأيديولوجيات
أولًا: السودان دولة بلا مؤسسات… لأن المجتمع نفسه بلا مؤسسات
منذ فجر الاستقلال، دخل السودان العصر الحديث بدون بنية مجتمع مدني متماسكة.
المجتمع كان موجودًا… لكن المؤسسات التي تحوّل هذا الوجود إلى قوة منظمة لم تكن موجودة.
ولذلك:
غابت النقابات الحرة
ضعفت الاتحادات المهنية
لم تتطور مراكز الحوار والبحث
تحولت الروابط الاجتماعية إلى قبائل وطوائف
وتوسع المجال السياسي بفعل النخب بدلًا من المجتمع
هذه الحالة لا تعني أن السودانيين غير قادرين على التنظيم؛
بل تعني أن الدولة الحديثة سُحبت من المجتمع منذ اللحظة الأولى، ووضعت في يد نخبة ضيقة.
ثانيًا: كيف تصنع النخب فراغًا يسمح لها بالهيمنة؟
حين يغيب المجتمع كمؤسسات، تصبح الدولة بلا رقيب.
وفي هذا الفراغ البنيوي تظهر ثلاث قوى تسيطر على المجال العام:
1. الأحزاب الأيديولوجية
تعيد تعريف السياسة باعتبارها احتكارًا للوعي، فتتحول من أدوات تمثيل إلى أدوات وصاية.
2. البيروقراطية المرتبكة
تُدار الدولة عبر جهاز إداري هش، يتحول إلى أداة للطاعة، لا أداة للخدمة.
3.القوى المسلحة و المليشيا
تملأ الفراغ الأمني الذي يخلقه ضعف الدولة، فتدخل إلى المجال السياسي بلا تفويض.
وهكذا تتحول الدولة إلى منصة تتسابق عليها القوى الفاعلة،بينما يغيب الشعب عن معادلة القوة لأنه بلا مؤسسات تحمي حضوره.
ثالثًا: نتيجة الفراغ… اختطاف كل ثورات السودان
من أكتوبر 1964 إلى أبريل 1985 إلى ديسمبر 2018، كانت المعادلة ثابتة:
الشارع يثور
النظام يسقط
المؤسسات المجتمعية غير موجودة
الأحزاب والنخب تقفز إلى المشهد
الثورة تُختطف
الدولة تُعاد صياغتها وفق التوازنات النخبوية
ثم تعود الدورة إلى نقطة الصفر
إن غياب المؤسسات ليس خللًا سياسيًا فقط؛
هو خلل هيكلي في بنية المجتمع والدولة.
رابعًا: لا يمكن بناء دولة بلا مجتمع ولا يمكن بناء مجتمع بلا مؤسسات
الدولة الحديثة ليست مبنى، وليست حكومة، وليست جهازًا إداريًا.
الدولة هي نتيجة طبيعية لوجود مجتمع واعٍ ومنظم.
حين يغيب التنظيم الاجتماعي، تصبح الدولة:
هشة
قابلة للاختطاف
غير قادرة على إنتاج عقد اجتماعي
وغير قادرة على حماية مصالح الناس.
وبذلك، فإن بناء مؤسسات المجتمع المدني ليس “رفاهية سياسية”،
بل هو شرط وجود للدولة نفسها.
خامسًا:الدرس الجوهري للسودان
لن تحلّ أي ثورة، مهما اتسعت، أزمة الدولة ما لم تسبقها شروط ثلاثة:
1. مؤسسات مجتمعية على الأرض
لا في الورق ولا في المنصات،
بل مؤسسات تعمل في المجتمع وتمثل المجتمع.
2. استقلال كامل عن الأحزاب والنخب
حتى لا تتحول إلى أدوات تعبئة حزبية أو منابر دعائية.
3. وعي عام بأن حماية مصالح الناس تبدأ من تنظيم الناس أنفسهم
لا من انتظار الدولة أو الثقة في الشعارات.
هذه الشروط ليست نظرية؛
هي الشرط التاريخي الوحيد لعدم تكرار اختطاف الثورات.
سادسًا: نحو انتقال فلسفي من “ثورة الشارع” إلى “ثورة المؤسسات”
ليس المطلوب إصلاح الدولة على حالها،
ولا انتظار لحظة الانفجار القادمة،
ولا تعليق الأمل على النخب.
المطلوب هو ثورة هادئة،
تُعيد المجتمع إلى مركز الفعل،
وتضع المؤسسات المجتمعية كحاكم أعلى للمجال السياسي…
فيتحول السودان من دولة منهوبة إلى دولة مملوكة لجماهيرها. …نواصل
14 أكتوبر 2025
