د.إيناس محمد احمد تكتب : *العدالة الانتقالية (2/2)*
د.إيناس محمد احمد تكتب :
*العدالة الانتقالية (2/2)*
دائما ما يثور الجدل حول اولويات تطبيق العدالة الانتقالية في بلد ما في أعقاب الحرب ، هل العمل على تحقيق الهدوء والاستقرار بعد الحرب اولا ام محاكمة منتهكي الحقوق ومرتكبي جرائم الحرب ؟
علي كل فإن الداعي الأساسي للعدالة الانتقالية هو قدرتها علي ملاحقة المتورطين والتصدي للانتهاكات التي حدثت بكل أنواعها ، ومعالجة آثارها ، وهو ما تعجز عنه -احيانا – العدالة التقليدية .
ورغم حداثة فكرة العدالة الانتقالية نسبيا ، الا ان أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين شهدت عدة دول أحداث مؤسفة مما جعلها تستعين بالعدالة الانتقالية للخروج من تلك الاحداث ، ومن التجارب التي نتجت عن تطبيق العدالة الانتقالية في تلك الدول تكونت مرجعية دولية واضحة المعالم فقد أخذت كل من الارجنتين وتشيلي وجنوب أفريقيا وبيرو و السلفادور وغواتيمالا و الهندوراس والبرازيل وبوليفيا وبارغواي والاكوادور وبنما وكوستاريكا وكولومبيا ورواندا وسيراليون واوغندا وبولندا والمجر و ليبيا وسوريا مؤخرا .
كل هذه التجارب أعطت ثراء في نهج التطبيق للعدالة الانتقالية على أرض الواقع.
العدالة الانتقالية ليست نوعا خاصا من العدالة ، إنما هي مقاربة لتحقيق العدالة بعد فترات حرب او قمع من أجل إحقاق الحق ، وهي حزمة ترتيبات بغرض تهدئة النفوس مما حدث من جرائم انتهاكات وتهيئتها لمرحلة جديدة ، و تتطلب أيضا استقلال القضاء لتطبيق القانون وحماية الشهود وحماية إجراءات المحاكمة وإعلانها للجميع ولا توجد فيها حصانة لمجرم ولا تسقط العقوبات في الجرائم ضد الإنسانية او جرائم الحرب بالتقادم ، وذلك بغرض إعادة الثقة في الأجهزة العدلية والقانون ، وتتطلب ايضا تكوين لجان الحقيقة ولجان تقصي الحقائق ، ولجان المصالحة .
بالاضافة لما سبق هناك بعض الدول أخذت بالسرد الشفهي على اساس ان السرد وقول الحقيقة والاعتراف بالجرم من الجاني أداة لمداواة الجراح للضحايا و تحقيق المصالحة على اساس من العفو بين الأطراف ، وهذا في حد ذاته تحدي .
لكن التحدي الحقيقي للعدالة الانتقالية يكمن في التطبيق الصحيح والسليم لها وفق تلك التجارب بالأخذ بنتائجها الايجابية والبعد عن القصور او السلبيات في التطبيق .
لذلك اهتم فقهاء القانون الدولي بتطوير مفهوم العدالة الانتقالية وأقبلوا على البحث بشغف شديد لما له من ألق فكري وجاذبية بحثية ، فظهرت عدة نظريات قديمة وآخرى حديثة ، منها نظرية (جون رولز) صاحب نظرية العدالة والذي يرى ان العدالة الانتقالية هي القدرة على تأهيل الناس لأجل تجاوز محنة مر بها المجتمع ، وسعي المجتمع والسلطة معا الى تجاوز هذه المحنة بتدابير سريعة ، بينما (امارتيا صن) وهو ( أمريكي من أصل هندي) أعطى للعدالة الانتقالية رؤية اوسع بقوله ” اننا لا نحتاج لنظريات مثالية في تطبيق العدالة الانتقالية بل نحتاج الى خطط وقوانين وتدابير (ممكنة) وبطريقة موضوعية لتجاوز المحنة”.
نتيجة لهذه النظريات الحديثة اقبلت الدول التي مرت بحروب طاحنة على الأخذ بالعدالة الانتقالية ومبادئها في متون قوانينها وذلك لرد الحقوق وجبر الضرر والتعويض للضحايا ،بل و(دسترة) بعض المبادئ كمبادئ دستورية لقطع الطريق على من يريد العودة للماضي المؤلم ، حدث ذلك في تجربة رواندا حيث تم إجراء اتفاق استدامة السلام والأمن ولضمان ذلك اتفق على ان يكون المسار الحقيقي للبلاد نحو التعافي من الحرب ، ونص تقريرمفوضية حقوق الإنسان على ضرورة عقاب مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية والابادة الجماعية وسن تشريعات بذلك ، وبناء نصب تذكاري لتخليد ذكرى ضحايا جرائم الابادة الجماعية التي حدثت ، كما حددت خطة العدالة الانتقالية التي اعتمدت في 2019م معايير مشتركة لعمليات العدالة الانتقالية وتقدم مبادئ توجيهية حول كيفية استخدام الحكومات لهذه العمليات بشكل فعال لمساعدة الدول الأفريقية على تخطي ماض مؤلم .
أكدت التجربة الرواندية على خطة العمل المشتركة للاتحاد الافريقي على الالتزام المشترك بإدانة ورفض الإفلات من العقاب .
في قارة آسيا كانت تجربة كمبوديا حاضرة باستيلاء الخمير الحمر بزعامة (بول بوت )عام 1975م عليها ، حيث قتل حوالي مليون وسبعمائة الف كمبودي بسبب الجوع والقتل الجماعي الذي ارتكبته هذه الجماعة ، وفي العام 2006م قامت محاكم مختلطة مدعومة من الأمم المتحدة بمحاكمة كبار قادة الخمير الحمر لمسؤليتهم عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي وقعت ووضع قوانين تمنع العودة لمربع العنف والحرب مرة اخرى .
من هذه النماذج السؤال الذي يطرح حين التطبيق هل هي عدالة انتقالية ام سياسة انتقالية ؟؟
في كل الأحوال فالفهم الصحيح للعدالة الانتقالية يتبعه تطبيق صحيح حتى يمكن الوصول الى نتائج مرضية، من حالة الاحتلال الى الاستقلال ومن حالة الاستبداد الى الحرية ومن وضع جبر الضرر الى مرحلة المصالحة وتجانس المجتمع وتهيئة الجميع للعبور لمرحلة البناء والتنمية.
هذا يقتضي ان تحدث نقاط اساسية
1/ القبض على المتورطين في جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وتوجيه التهم لهم .
2/إعلاء النزاهة ومحاربة الفساد في أجهزة الدولة .
3/الإشراف على إنشاء آليات وطنية للعدالة الانتقالية بغرض العفو والمصالحة وبناء دولة القانون .
4/الإصلاح القانوني والدستوري للدولة وتفعيل الأجهزة العدلية الوطنية.
5/نزع السلاح من المدنيين الذين مروا بتجربة الحرب المريرة .
6/الاهتمام بتقديم رسالة إعلامية وطنية تحمل مبادئ العدالة الانتقالية لتوطيد دعائم و ثوابت المجتمع والدعوة للمصالحة الوطنية والبعد عن العنف و تأجيج الصراعات وإنهاء حالة العداء وانعدام الثقة بين مكونات المجتمع مع الاعتراف بحق الضحايا وتعويضهم .
في كل التجارب الدولية للعدالة الانتقالية كان السعي دائما نحو الوضع المستقر والعمل على بناء المجتمع والدولة معا وتحقيق التنمية والأمن والأمان ، وطي صفحة الماضي المؤلم .
لكن ،، ماذا عن بلادنا ؟ هل يحتاج السودان( لعدالة انتقالية) بعد فترة الحرب المريرة التي خاضها الجيش والشعب معا ؟
ما شكل ونوع العدالة الانتقالية المطلوبة ، والتي تصلح للسودان وشعبه ؟
في كل الأحوال ،، لا تبنى الأوطان الا بأيدي أبنائها ، ولا تضمد جراحها الا بالسلام والأمن والأمان .
اللهم احفظ بلادنا وانصر القوات المسلحة نصرا عزيزا يا الله سبحانك لا ناصر لنا الا انت .
نووووووااااصل
الخميس 20 فبراير 2025م