د. المعز إبراهيم الهادى يكتب : *عبد الفتاح فرانكو*
د. المعز إبراهيم الهادى يكتب :
*عبد الفتاح فرانكو*
*إسبانيا.. 1975..*
لم يكن القصد من مقالي “فلامنكو” في العام الماضي شرح ما ترمز إليه هذه الرقصة الأندلسية المعبّرة ، كما لم يكن إشهاراً لوصول الفريق عبد الفتاح البرهان إلى قاعدة “فلامنغو” العسكرية ، بل كان محاولة لإستجلاء تجربة الجنرال “فرانكو” الذي حكم إسبانيا في الفترة من عام 1936 إلى 1975..
كانت اُمنية لو يأتينا في السودان حاكمٌ مثله يُوطّد من دعائم الجمهورية وفق رؤية وطنية متجردة وإستراتيجية شاملة وثاقبة وبعيدة ، تماماً كما وطّد “فرانكو” من دعائم الملكية وثبّت أركان الديمقراطية بعد حرب طاحنة وفوضى عارمة..
كان الرجل ذو فطنة سابقة ، ودهاء وسياسة ، لعب بأوراق كثيرة ، مختلطة ومتناقضة ومتبعثرة ، في ظروف صعبة ، لكنه صبر وصمد وقاتل حتى النهاية ، فجعل الجميع يسعون إليه ، ويطلبون العون منه ، حتى من إتهموه بالفاشية ، ومن رموه بالخيانة ، ومن قالوا كان مسلماً يخفي دينه.. لكن “فرانكو” سلك الطريق الوعرة بعزيمة وصدق فحقق ما أراد ، ووصل إلى ما كان يصبو إليه ، وهو أن يرى إسبانيا كما نراها نحن اليوم ، علامة ومنارة..
*الإمارات.. 2017..*
حينما جلس الرئيس عمر البشير إلى الشيخ الشيخ محمد بن زايد في تلك الأمسية من عام 2017 سمع منه هذا الكلام..
“شكراً لفزعتكم فخامة الرئيس ، شكراً لنجدتكم ووقفتكم معنا ، سنخبر أبناءنا بمؤازرتكم ، وسيعلم أحفادنا ومن يأتي بعدهم برجولتكم وهبتكم لنصرتنا في ساعة العُسرة”..
إبتلع البشير الكلام..
ثم ذهب مع الريح..
*السودان.. 2019..*
بعد سنتين فقط من تلك الجلسة ، وجد البشير نفسه بعيداً من بلاط الشيخ والجلسة والمائدة ، سجيناً في أرذل العمر ، يجلس على الأرض ، ويتوسد الحجر ، ويأكل ما يمِن به عليه سجّانه..
امّا من خلَفه في الحكم فوجد نفسه مطبولاً داخل قيادة جيشه مع هيئة أركانه ، والدولة من حوله كلها تتهاوى وأركانها تنهار ، وكل شيء فيها يتلاشى بسرعة ويزول حتى أهلها..
*ذو السويقتين*
قضى “ذو السويقتين” على رئيسين عسكريين في أربع سنوات ، ووضع زعماء الإدارة الأهلية داخل حافلته وقام بهم ، ورمى القوى المدنية داخل محفظته وهام بها ، وجرجر رِعاعه والهمج الذين معهم في طول البلاد وعرضها ، يدنسون أرضها ويطردون أهلها ويمنعون عنهم الماء.. وجلس يحدث الأمة بنبرة صوته المائعة وكلماته المفلسة وجهالته المضحكة عن الديمقراطية وفلسفة الإدارة وشؤون الدولة وأمور الحكم وتسريح الجيش..
جعلوه يظن أن له شأناً وأن قضيته هي أكبر من ركوب الحمير في الخلاء والنزول منها.. وهكذا يكون الحال كلما ظن المفلسون أن الحمار حصاناً..
في تلك الأوقات العصيبة التي بلغت فيها القلوب الحناجر وضاقت فيها صدور الطيبين لم يكن أحد يعلم أين الإبرة وكيف يحفر البرهان بها..
*الفريق والشيخ*
طلب البرهان السماح له بالخروج من المعتقل للأخذ والرد والتفاوض وربما الإستسلام بما يحفظ ماء الوجه (وكرامة) الجيش وشئ من كبرياء الأمة.. تمت الموافقة على طلبه..
وإبتلع الشيخ الإبرة..
*السعودية.. 2023..*
تمكن الرجل من مغادرة محبسه بليل ، وسافر حسب خطة ووفق ترتيب إلى “فلامنغو” قريباً من جدّة التي بعث إليها موفديه (للتفاوض)..
وجدّة كانت عجوز ساكنة مِثل جدّة ، حاول المتآمرون من خلالها منع طيران الجيش من التحليق ، وتهكموا على قيادته ، وسعوا في إستجلاب قوات أفريقية لعاصمة البلاد لتدبير الأمر من الداخل وفرض السيطرة ، لكن البرهان كان واعياً وذكياً تنبّه للخطر ، فأوعز (لصاحب الأمر) بالسماح لرفيقه الكباشي بالخروج من المعتقل فهو المؤتمن على السرّية وبحث الإتفاقية وتحريك الجمود وفك البلاد..
*البحرين.. 2024..*
ذهب الرجل للمنامة ، ولمّا شعر البرهان أن الأمر قد دنا والتفاهم قد إقترب والتوقيع بات قاب قوسين او أدنى ، أوعز برفع السرّية وكشف الغطاء عن الإتفاقية حتى يتمكن من وأدها في مهدها ودفنها في الحفرة التي دفن فيها غيرها..
*سويسرا.. 2024..*
بعد ذلك قرر الرهط أن المناص هو جرِّ الرجل إلى سويسرا ، فرتب المبعوث الأميركي بيريللو للأمر وأعلن محفّزات للبرهان وكتم أخرى ، ثم ذهب الجميع ينتظرونه هناك لعشرة أيام كاملة بلياليها لكنه لم يذهب ، فترك بيريللو (المجتمعين) في فنادقهم ونُزلهم وسافر لعبد الفتاح السيسي يستجديه أن يقنع عبد الفتاح البرهان بالحضور ويتوسّل لملاقاته ولو في مصر ولو لساعة واحدة من نهار ، فسافر رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية عباس كامل لبورتسودان لنقل الرسالة لكن المحاولة لم تنجح ، ثم توسّطت شخصيات أخرى لإقناع البرهان لكنها لم تنجح ، ثم زارته وفود ولم تنجح ، ثم منحوه ضمانات ولم تنجح ، ثم زاره رئيس وزراء إثيوبيا ولم ينجح ، ثم هدده الوزير الأميركي بلينكن ولم ينجح ، ثم أخيراً جاءه بيريللو يسعى إليه في عرينه ببورتسودان يحمل خيبته بين يديه ، وانكسارة في نظرة عينيه ، ولم ينجح..
*البرهان الرئيس..*
وفي أثناء ما كان البرهان يناور ويحاور ، تسلح ودرّب ، وخطط وسافر ، وعقد صفقات ونسج تحالفات وكسب دولاً إلى جانبه وكسر دولاً ، وطرد مبعوثين ، وتغافل عن آخرين ، وفرد أجنحته وسافر إلى ما وراء البحار ووصل إلى هيئة الأمم والتقى فيها بالرؤساء وخاطب الدول واكتسب الشرعية بالواقعية..
*قوة البرهان المميتة..*
وبعدما امتص الرجل الصدمات ، ولاك الصبر ، واستوثق من قوة رأس إبرته ، ضرب بالقوة المميتة في اللحظة المميتة – بجيشه ودروعه وحركاته ومستنفريه – ضرب عدة إتجاهات في وقت واحد ، وجعل الشعب معه يستقبله ويؤيده ويهتف له بالنصر والظفر ويدعو بالبطولة..
*ثأر السودان..*
في الأثناء أخذ البرهان الثأر لأهل السودان من كثيرين..
وكثيرون آتيهم الدور..
وتوشح الدرع..
وفتح الحرب شاملة..
والقضية كاملة..
وجيّش لها الشعب..
ووقف مستعداً للمواجهة..
مرة بإشارة من إصبعه..
ومرة بقبضة يده..
فهم البرهان ما لم يفهمه البشير..
وابتلع الجميع..
من شك فيه ومن أيّده..
من تلاعب عليه ومن كشف نفسه إليه..
*كينيا.. 2025..*
لمّا شعر الرهط أن المليشيا قد دنا أجلها ، وأن الحرب إلى هزيمة ، جمعوا شملهم مع روتو في (نيروبه) المسروقة لبث الأمل في أعجاز نفوسهم الخاوية ، ووجوههم القبيحة ، وطباعهم اللئيمة..
*روتو المجرم..*
في أبريل من عام 2016 أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاى ضمن حيثيات حكمها إعلاناً كشفت فيه أن المتهم وليام روتو يقود شبكة إجرامية منظمة قامت بإثارة الفوضى وتمويل العنف في انتخابات كينيا عام 2007 ، وانتهت المحكمة إلى أن الإدعاء لم يقدم ما يكفي من أدلة لإدانة المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية والقتل والإضطهاد.. ولأن أعضاء المحكمة كانوا على قناعة بأن المتهم مذنب ، تركوا الباب موارباً لإعادة فتح ملف القضية في أي وقت ومتى ما توفرت الأدلة الكافية لإدانته..
*روتو عدو أهل السودان..*
تقول الحكمة “لا تشغل نفسك بمن يكيد لك ، أشغله بنفسه وابتعد منه”..
أقترح على حكومة السودان أن تبدأ بتعيين فريق من صفوة كادر جهاز أمنها الخارجي وحاذقين من القانونيين السودانيين الوطنيين لإعادة فتح ملف قضية المتهم روتو في المحكمة الجنائية الدولية ، وإشراك محققين أوروبيين مرموقين ومكاتب محاماة معروفة ومعارضين كينيين للمساهمة في جمع الأدلة واستجواب الضحايا وذويهم وإعادة القضية للواجهة..
*ميلاد اُمّة..*
وبرغم المؤامرة ومراراتها..
والظلم الذي وقع..
والأسى الذي ملأ القلوب..
والهوان الذي عاشه الناس..
فالبلاد تنفث خبَثها الآن..
وعُودها يشتد ويقوى وهي تكبر..
ومستقبلها يوضح وينضج..
وميعادها يدنو من الحقيقة..
وعمّا قريب..
يأذن صاحب الإذن سبحانه وتعالى..
بإعلان ميلاد جديد..
لاُمّة طيبة..
ما ذاقت طعم الميلاد..
ولا فرِحت بضحكة المولود..
اُمة غنيّة عفيفة..
أنهكتها حروبها..
وخذلتها نخبتها..
ودمرتها طائفيتها..
وتم إفقارها بالكامل..
وتجريدها من كل شئ..
لكنها..
اُمة جديرة بالإستمرار في الحياة..
دافعت عن وجودها..
واستفاقت من غفوتها..
ونهضت من كبوتها..
ففتح الله عليها هذه المرة..
من فلامنغو..
من بعد سبعين سنة..
حتى تعي الدرس..
ولو من مدريد..
ولو إلى حين..
⭐
المحاضر – سابقاً – في كلية القانون بجامعة الخرطوم