منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د. حيدر البدري يكتب : *الجنجويد .. مجتمعات الصحراء وأخلاق الغابة*

0

د. حيدر البدري يكتب :

*الجنجويد .. مجتمعات الصحراء وأخلاق الغابة*


مجتمعات الجنجويد ليست مجتمعات (مارقة) فحسب، بل جماعات منبتّة عن الفضائل ومفتقرة لقيم الأخلاق العُليا . الأخلاق Ethics بالطبع ليست حِكراً على دين معين أو مجتمع او نسق ثقافي معيّن، بل هي ظواهر ثقافية ديناميكية تتفاوت درجاتُها وقيمتُها في الإنسان والجماعات . مفاهيم ( الخطأ / الصواب) ( الجائز / الممنوع) ( الفضيلة / الرذيلة) كلها مقاييس قيمية غير ثابتة للأخلاق، وتتأرجح عبر الزمان والمكان والبشر ، لكن هناك قيم مُطْلقة Absolute values يتشارك اعتقادها معظم الناس ، كالصدق والأمانة والاعتذار والنزاهة والكرم والوفاء والمساعدة والتسامح والاحترام . هذه وغيرها مكارمُ أخلاق كانت موجودة حتى في حقبة الجاهلية ما قبل الإسلام، وجاء الإسلام وأكّد عليها وهذّبها وزاد عليها قيم رفيعة أُخرى، فالنبي ﷺ قال ( إنما بُعثت لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق) ، وقد تجد هناك أُناساً أو مجتمعات مُلحدة تماماً لكنهم يتبنّون طيفاً من الأخلاق الحسَنة في حياتهم وسلوكهم العام ، ولا غَرابة ، فالإنسان عبر تطوّر العصور أخذ يُنتج قيماً تخصّه اصطُلِح عليها عُرفا ب(القيم الإنسانية) أو (الانسانوية) Humanism وهو مصطلح لحركة فلسفية أعمق وأكثر تعقيداً .

عوداً على بدء، فحواضن ( الجنجويد) ومجتمعاتهم ، هي مجتمعات بدائية Primitive أو ما قبل رأسمالية، أو مجتمعات ماقبل الدولة ( جماعات ماقبل صناعية) ، وهي مجتمعات تميل للتكتل في نسَق جماعي متجانس، حيث يتشاركون الدماء والأرض والنشاط الاقتصادي، ويحتكمون للناظر/شيخ القبيلة/الشرتاي ، وهو السلطة الأعلى في القبيلة وبسلطانه يمنح صلاحيات لقيادات أدنى كذلك. القبيلة كما تملك ثروتها الحيوانية والبشرية وسلاحها ومالها وتراثها ورقصاتها ، فهي كذلك تملك منظومتها القيمية التي تخصّها ( الأخلاق الجماعية), وهي ليست منتج حديث التشكّل بل يتم توارث الأخلاق الشائعة عبر الأجيال . فعند تلك القبائل تجد ظواهر سلوكية بالغة السوء كالنهب ، والقتل ، والاختطاف، وسبي النساء واغتصابهن ، والعودة من ميادين القتال بالغنائم ( الفيئ) من أموال وسيارات وممتلكات خاصة وذهب وغيره، كل هذه سلوكيات غير مستهجنة في تلك المجتمعات، بل تجد الترحيب وتُعَد لها الذبائح وحفَلات الرقص وزغاريد النساء ، فإذا رأت أمٌ إبنها عاد من الخرطوم أو الجزيرة وقد نهبَ من مواطنين الحُلي والذهب والأموال والعربات ،وبعض الفتيات ، استقبلته بالزغاريد وأهازيج الفرح والبِشر ، غير آبهة أي جُرم ارتكب ، وكم روحٍ أزهق ، وأي ظلم ألحق !

مثل هذه المجتمعات المتقبّلة للخطايا والموبقات والرذائل ووضيع الخصال، يجب أن تخضع للدراسة . اعتقادي أن توارث هذه المنظومة الوضيعة من الأخلاق وتراكمها في نفوس هذه الجماعات قد تم عبر قرون طِوال وليس حديث عهد ، فهذه المجتمعات لم تنشأ في بيئة مستقرة متحضّرة يشيع فيها التديّن وقيم الإسلام والانفتاح على أفق حضاري أكثر تقدم ورقيّ وتمدّن ، وهنا بالضرورة أشير إلى أن السبب ليس العامل الاقتصادي والفقر والترحال، فلكَ أن تطوف عشرات الأرياف الفقيرة والقرى المُعدمة في السودان، لن تَجد سوى الكرم والاحترام والعِفة والصَبر والسلوك الحضاري، وليس الأمر لأنهم رُحّل ، فالكبابيش والهواوير والزبيدية والرشايدة وبعض الكواهلة رحّل ولكن لن تجد إلا ما يملأ عينيك من الوقار والجود وعزة النفس وحميد الخصائل وحسن المعشر . لذا فمنظومة الأخلاق عند مجتمعات الجنجويد أصيلة فيهم ، تجري في دمائهم وتتلبّس وعيهم الجماعي ، لا ضير أن عوامل الهجرات عبر الجغرافيا والاحتكاك العنيف مع مجتمعات السهل الافريقي لمئات السنين وصراعات القبائل وهجرات الجفاف جنوب الصحراء صنعت جزءاً من تلك القيم المقيتة الموروثة ، ولكن يُلاحظ الفرق بين ( جفاء الأعراب وغلظتهم) و ( الأحقاد والكراهية ) المدفونة عميقا في الوعي الجمعي لتلك المجتمعات ،وسعيهم الدؤوب للانتقام والتشفّي والإبادة والتهجير والتدمير والإذلال لمجموعات عرقية وطبقات اجتماعية معينه، يبدو أن الجنجويد وحواضنهم يحتفظون بجذورها منذ حقبة المهدية ، والهالك التعايشي، فهُم جهاديته ، مرتكبو المجازر ، مُفسدو الحرثَ والنسل، حارقو البيوت على رؤوس ساكنيها …

ونورد عبارة الفيلسوف “جورج سانتايانا “:
(إن أولئك الذين ينسون تاريخهم محكوم عليهم بتكراره)

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.