عمر مختار حاج النور يكتب : *لابد من لاهاي وإن عز النصير 6* الحلقة السادسة:
عمر مختار حاج النور يكتب :
*لابد من لاهاي وإن عز النصير 6*
الحلقة السادسة:
قراءة متأنية في قرار رفض دعوى السودان أمام محكمة العدل الدولية:
مواصلة لسلسلة الحلقات التي سلطنا خلالها الضوء على أهمية اللجوء إلى ساحات العدالة الدولية كسبيل لإنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة، نتوقف اليوم عند مستجد بالغ الأهمية في هذا المسار؛ وهو قرار محكمة العدل الدولية برفض الدعوى التي رفعها السودان ضد دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد إتهم السودان في دعواها الإمارات بإنتهاك إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وذلك بدعمها المؤثر لمليشيا الدعم السريع المتهمة بإرتكاب فظائع في السودان.
لم تنظر المحكمة في قرارها هذا في طبيعة الإدعاءات السودانية المتعلقة بإرتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو مسؤولية الإمارات عن دعم مرتكبيها. لقد إستند قرار المحكمة إلى أساس إجرائي بحت يتعلق بعدم إختصاصها القضائي في هذه الحالة تحديدًا. جوهر الرفض يكمن في التحفظ الذي أبدته دولة الإمارات على المادة التاسعة من إتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية عند انضمامها للإتفاقية عام 2005.
التحفظ في القانون الدولي هو إعلان تصدره دولة عند التوقيع أو التصديق أو الإنضمام إلى معاهدة ما، تهدف من خلاله إلى إستثناء أو تعديل الأثر القانوني لبعض أحكام المعاهدة عند تطبيقها عليها. يرتبط التحفظ بمبدأ رضا الدول ك “ركيزة” أساسية في القانون الدولي؛ فلا يمكن إلزام دولة بأحكام معاهدة أو جزء منها دون موافقتها. بتحفظ الإمارات على المادة التاسعة، تكون قد إستثنت نفسها من الخضوع لولاية محكمة العدل الدولية فيما يتعلق بتسوية النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الإتفاقية عن طريق الإحالة إليها.
هذا يعني أن قرار المحكمة هو رفض للدعوى لأسباب شكلية وليس لأسباب موضوعية. فالرفض الشكلي، كما حدث في دعوى السودان، يعني إنهاء الدعوى لعدم استيفائها شرطًا إجرائيًا معينًا، وهو هنا عدم إنعقاد الإختصاص للمحكمة بسبب تحفظ الإمارات على المادة التاسعة، تجدر الإشارة إلى أن هناك حالات إجرائية أخرى يمكن أن تؤدي إلى إنهاء الدعوى دون النظر في موضوعها، مثل:
* عدم توفر الصفة القانونية للدولة المدعية لرفع الدعوى.
* غياب مصلحة قانونية مباشرة للدولة المدعية في النزاع.
* فشل الدولة المدعية في تقديم أدلة كافية تبرر إستمرار النظر في الدعوى (يعرف بإنهاء الدعوى لعدم كفاية الأدلة الأولية) .
* سحب الدولة المدعية لدعواها طواعية.
في كل هذه الحالات، تقرر المحكمة إنهاء الإجراءات دون الخوض في حقيقة الوقائع والإدعاءآت، أما الإنهاء الموضوعي فيتم بعد أن تنظر المحكمة في الأدلة والبينات، وتصدر قرارًا يفصل في جوهر النزاع، مثل أن تقرر عدم وقوع الجريمة المدعاة أصلاً، أو عدم مسؤولية الطرف المدعى عليه عنها.
في حالة شكوى السودان ضد الإمارات، لم تصل المحكمة مطلقًا إلى مرحلة تقييم الأدلة أو الفصل في جوهر الإدعاءات، فهي لم تقرر ما إذا كانت الإمارات قد إنتهكت إتفاقية منع الإبادة الجماعية أم لا. إنما جاء قرار الرفض بناءً على أن المحكمة غير مؤهلة لنظر هذه القضية تحديدًا مع الإمارات بسبب حاجز التحفظ المسبق الذي يحد من ولايتها القضائية. وبالتالي، فإن الإتهامات السودانية الموجهة إلى الإمارات تظل قائمة ولم يتم دحضها أو تأكيدها أمام محكمة العدل الدولية.
وهذا الرفض يفتح الباب أمام السودان لإستكشاف مسارات قانونية أخرى أو اللجوء إلى آليات دولية مختلفة قد تكون متاحة.
أثار قرار محكمة العدل الدولية برفض دعوى السودان ردود أفعال متباينة، داخلية في السودان، تراوحت فيها المشاعر بين خيبة الأمل والغضب لدى البعض، الذين رأوا في القرار إخفاقًا في تقدير الموقف القانوني وإختيار مسار مغلق بسبب تحفظ الإمارات، وقد إختلط الأمر على بعض غير المختصين الذين إنتقدوا وزير العدل، حيث خلطوا بين مفهوم “الإختصاص” العام للمحكمة (سلطتها النظر في أنواع معينة من القضايا، مثل النزاعات بين الدول أو الجرائم المنصوص عليها في الإتفاقيات) ومفهوم “الولاية” أو “إنعقاد الولاية القضائي” وهو (موافقة الدول الأطراف في نزاع معين على خضوعها لإختصاص المحكمة)، المحكمة هنا لديها إختصاص عام، لكن ولايتها على الإمارات في هذا النزاع بالتحديد لم تنعقد بسبب التحفظ.
خارجيًا، عبرت الإمارات عن إرتياحها للقرار وإعتبرته بمثابة صك براءة لها، وهو إدعاء لا يتفق مع الحقيقة القانونية، حيث لم يتطرق القرار لموضوع الإتهامات أو ينفيها.
نظرت جهات أخرى للقرار بإعتباره إنتصاراً قانونياً ودبلوماسيًا للإمارات لنجاحها في تجنب مناقشة تفاصيل الإتهامات الموجهة إليها في ساحة قضائية دولية رفيعة المستوى.
هناك من يرى أن هذا القرار قد يشجع دولاً أخرى ذات تحفظات مماثلة على التمسك بها، مما قد يضعف فعالية محكمة العدل الدولية وقدرتها على تطبيق الاتفاقيات الدولية، ويؤشر إلى إحتمال إفراغ هذه الإتفاقيات من محتواها الموضوعي في بعض الحالات.
بما أن رفض دعوى السودان ضد الإمارات ليس سابقة فريدة، بل هناك حالات مماثلة رفضت فيها المحكمة دعاوى بسبب تحفظات الدول على بنود تمنحها الإختصاص، يبقى السؤال الملّح: إلى أين ستكون وجهة السودان القادمة في سعيه للعدالة؟
في الإجابة على هذا السؤال، قد تبدو المحكمة الجنائية الدولية الوجهة الأقرب التي قد يتجه إليها السودان في بحثه عن العدالة وإنصاف الضحايا. وهذا يتطلب، كخطوة أساسية، توجيه الإتهامات ضد أشخاص طبيعيين (أفراد) بوصفهم المسؤولين عن الجرائم، حتى ينعقد الإختصاص للمحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة الأفراد، على عكس محكمة العدل الدولية التي تختص بنظر النزاعات بين الدول.
من المعلوم أن السودان ليس طرفًا في ميثاق روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. هذا القيد القانوني يمنع السودان بإعتباره دولة غير عضو من طلب تدخل المدعي العام للمحكمة بشكل تلقائي لممارسة سلطاته في التحقيق ، وفي ظل هذا الوضع القانوني، هناك آليتان رئيسيتان يمكن من خلالهما إحالة الوضع في السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية:
* الآلية الأولى:
الإحالة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، يمكن لمجلس الأمن إحالة “وضع” معين إلى المحكمة الجنائية الدولية، بغض النظر عما إذا كانت الدولة التي وقعت فيها الجرائم طرفًا في ميثاق روما أم لا. يتطلب قرار الإحالة هذا موافقة تسعة أعضاء في المجلس، وعدم استخدام أي من الأعضاء الدائمين (الصين، فرنسا، روسيا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة) حق النقض (الفيتو). وقد سبق لمجلس الأمن أن أحال الوضع في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية بموجب هذه الآلية.
* الآلية الثانية:
إعلان من الدولة غير الطرف بقبول الولاية القضائية للمحكمة (بموجب المادة 12(3) من ميثاق روما).
حيث تنص المادة 12 (3) “على أنه يجوز لدولة ليست طرفًا في الميثاق أن تعلن، بإيداع صك لدى مسجل المحكمة، قبولها ممارسة المحكمة لولايتها القضائية فيما يتعلق بجريمة أو جرائم محددة ترتكب في إقليمها، أو إرتكبت من قبل مواطنيها، وذلك إعتبارًا من تاريخ محدد. يجب أن تتعاون الدولة التي تقدم هذا الإعلان مع المحكمة دون أي إبطاء أو استثناء”.
هنا قد يتساءل البعض: هل يمكن أن يكون تعاون السودان السابق مع مدعي المحكمة الجنائية الدولية سببًا لتدخل المدعي العام تلقائيا؟
الإجابة إن تعاون السودان سابقًا مع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، “لويس مورينو أوكامبو”، بالسماح لفريقه بإجراء تحقيق حول الإتهامات بإرتكاب جرائم دولية في دارفور في عهد حكومة الانقاذ السابقة، لا يشكل في حد ذاته سببًا مباشرًا لإنعقاد الولاية القضائية للمحكمة أو لتدخل مدعي عام المحكمة على الجرائم الأخيرة، ومع ذلك فإن ذلك التعاون السابق يدل على إستعداد السودان للتعامل مع المحكمة الجنائية الدولية في مسائل تتعلق بالجرائم الدولية المرتكبة على أراضيه، فإذا قرر مجلس الأمن إحالة الوضع الحالي في السودان للمحكمة الجنائية الدولية، فإن هذا التعاون السابق قد يسهل عمل المحكمة.
وبالمثل، إذا قرر السودان إصدار إعلان بقبول الولاية بموجب المادة 12(3)، فإن هذا التعاون السابق قد يعزز مصداقية هذا الإعلان وجدية الدولة في طلب العدالة عبر هذا المسار.
في تقييم عام لخلاصات ما ذكر أعلاه هل السودان يعتبر خاسر أم كاسب في هذه الجولة ؟ وهل يمكن القطع بأن قوة القانون لم تسعفه في ملاحقة المتهمين والإقتصاص للضحايا؟
إذا نظرنا من زاوية ضيقة فيما يتعلق بالدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، يمكن القول أن السودان لم يحقق النتيجة المرجوة، ومع ذلك، لا يمكن إعتبار الأمر خسارة مطلقة فقد نجح السودان في جذب إهتمام دولي واسع لخطورة الأوضاع الإنسانية في البلاد، كما نجح في إسماع صوته للعالم بنشر الإدعاءآت الموجهة ضد دولة الإمارات في الهواء الطلق وفوق ذلك فإن مجرد اللجوء إلى القانون الدولي يمثل خطوة إيجابية تؤكد إلتزام السودان بالمسار السلمي والقانوني لتسوية النزاعات.
أما القول بأن “قوة القانون لم تسعفه” قد يكون سابقًا لأوانه: صحيح أن هذه المحاولة الأولى لم تنجح بسبب عقبة إجرائية خارجية (تحفظ الإمارات)، لكن هذا لا يعني فشل القضاء الدولي ككل في تحقيق العدالة للضحايا وإنصاف المظلومين ، ويظل خيار اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية قائمًا وممكنًا، سواء من خلال إحالة مجلس الأمن أو عبر إعلان من السودان بقبول ولاية المحكمة. كما أن هذه القضية قد تفتح الباب لمساءلة الأفراد المتورطين أمام محاكم أخرى تتمتع بولاية قضائية عالمية أو وطنية بناءً على مبادئ قانونية أخرى.
نختم بإن قرار محكمة العدل الدولية برفض دعوى السودان ضد الإمارات يمثل محطة مهمة في رحلة البحث عن العدالة للضحايا في السودان. ورغم ما صاحبها من خيبة أمل في البدايات، فمن الضروري إعتباره ماحدث دعوة لإعادة تقييم التحركات وتكثيف البحث عن مسارات قانونية ودبلوماسية أخرى، فإن رحلة تحقيق العدالة غالبًا ما تكون طويلة وشاقة، لكنها تظل ضرورية لإرساء سلام مستدام وضمان عدم إفلات مرتكبي الجرائم الدولية من العقاب. على السودان أن يستخلص العبر من هذه التجربة وأن يعيد ترتيب أوراقه القانونية والدبلوماسية لمواصلة السعي نحو تحقيق العدل وإنصاف الضحايا بكل السبل المشروعة والممكنة.