منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

ضل الحراز علي منصور حسب الله يكتب :. *تيراب الشريف الناقي… حين يصمت الشعر في حضرة الغياب*

0

ضل الحراز
علي منصور حسب الله يكتب :.

*تيراب الشريف الناقي… حين يصمت الشعر في حضرة الغياب*

برحيل البروفيسور تيراب الشريف الناقي، لا نودّع عالماً جليلاً فحسب، بل نفقد صوتاً شعرياً نادراً، نذر نفسه للمعرفة، وسلك دروب الشعر كما يسلك العارف متاهة النور، لا يطلب شهرة، بل يسعى إلى المعنى. كان شاعر “الصمت الباهر”، كما يليق أن نصفه، لا يُسمَع صوته إلا في عمق النص، ولا يطل من وسائل الإعلام، بل من نوافذ التأمل ومرافئ المسافة.
ديوانه الوحيد “نداء المسافة”، الصادر عام 1972 عن دار نشر جامعة الخرطوم، ظل صامتاً على رفوف النسيان، لم تنصفه الأقلام النقدية، ولم تُسلّط عليه أضواء الإعلام، لكنه بقي شاهداً على تجربة فريدة، ونداءً شعرياً يتردد صداه في ذاكرة من قرأوه، كأنه موسيقى قادمة من زمن آخر، أو صدى لقلق إنساني يبحث عن خلاص.
في قصائده تتجلى الأسئلة الوجودية، والحنين، والمفارقة بين الحلم والخذلان، بين النور والعزلة. تأمل قوله:

وهجنا خلاصنا
إن أنت غبت عن ديارنا
فمن لنا بمن يذود عن جسورنا؟

هنا لا يكتب الشاعر عن غيابٍ فردي، بل عن غياب المخلِّص، الحلم، الحماية. وكأن رحيله في ذاته تأكيد لما كتب؛ فالمخلِّص، دوماً، غائب.
أما قصيدته “مهرجان الزيف”، فهي قطعة شعرية تنبؤية، ترصد انكسار المعنى في عصر البهرج والزيف، حين يصبح السؤال الشعري صرخة:
من منكم يقوى على مصارعة الرياح؟

وكأنها مرآة لعزلة الشعراء، وغربة النبلاء في زمن استهلاكي فارغ.
رحل تيراب بصمت كما عاش، لم يلهث خلف الأضواء، ولا ارتدى عباءات الألقاب، كان أستاذاً جامعياً في قاعة الدرس، وشاعراً في خلوته الفكرية، يُعلّم بالعلم ويكتب بالشعر، ويصمت حين يعجز الصخب عن إدراك المعنى.
إن رحيله فاجعة هادئة، تشبه سقوط شجرة في موسم القحط؛ لا صوت للانهيار، فقط فراغ يتسع، وذكرى تومض بين أوراق ديوانه الوحيد، وتُذكّرنا بأن بعض الشعراء لا يموتون، بل يغيبون، ليظل صدى أصواتهم طازجاً، كما لو أنهم كتبوا للتو.
كتب شاعرنا مراثي تتفجر حزناً وألماً، منها قصيدة “شمسٌ تغيب في ديارنا” التي أهداها إلى روح شقيقه “حكيم القرية” الأستاذ الحاج مهدي الشريف الناقي، فقال:

تُشِعُّ فينا وهَجاً أخضرَ في
قرارةِ النفوسْ
مبتسماً مُحَفّزاً لنا
في وجهِ هذا الزمنِ العَبوسْ.
نظرتُك العميقةْ
تُنبِتُ في شِغافِ القلبْ
مشاعلاً للحبِّ تبقى
في نفوسِنا حتى نهايةِ الخليقةْ.
جَمَعْتَنا من بعدِ أَن تَشَعَّبَتْ دُروبُنا
أودَعْتَنا كُنوزَ حِكْمَتِكْ.
وفي الدًّجى رَحلتَ في سكينةْ
فغابت شمسُ دارِنا، وأطفأتْ نجومَها
كواكبُ المدينةْ.

وفي مرثيته للشاعر النور عثمان أبّكر، كتب تيراب يقول: هل غادر الشعراء من متردّم؟
نترة العبسيّ
سنّارنا أصابها الذهول
وشمسنا داهمها الأفول
الظل غاص في الجدار
والعشب صار يابساً
والزهر صار ذابلاً
وبُحّ الصوت
فالغناء ما عاد ممكناً
فطبل غابنا قد عاد فجأةً إلى جذوره
وبرهةً عبر
وعل الغابة يرحل عن سنّار
يحجب وجه الشمس
ويربك حراس الأسوار
مهتدياً بنوره البهيّ
مصطحباً ألواح محوه
ومودّعاً ألواح ثبّته
لنا أمانةً في أعناقنا
نورّثها لمن يجئ بعدنا.

في صمت ارتحل البروفيسور تيراب الشريف الناقي، شقيق البروفيسور مبارك الشريف الناقي. وقد نعاه الشاعر الكبير عالم عباس محمد نور بكلمات حملت مزيجاً من الحزن والاعتزاز، شاعر “أزوم”، الذي كتب يقول: يا شاطئًا رسى عليه زورق الغيوم…
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال
على الحراز، والهشاب، والخروب، والسيّال
كأنما الندى عليه باقة من النجوم…
أزوم يا أزوم، يا وادياً تحفّه الغيوم…
كتب مرثيته كما لو أنه يكتب عن “أزوم” مرة أخرى، إذ كيف لا، وهو يخاطبه بابن “كبم” الجميلة؟ يُذكر أن الراحل وُلد في حجر برو غرب كبم، ثم ارتحلت أسرته إلى حجر كرلي بشرق كبم، وهناك ارتبطت أسرتهم بأسرة شمبال من أسرة المقدوم سندكة حتى شكّلوا حلفاً اجتماعياً متماسكاً.
درس البروفيسور الراحل في مدرسة كبم الابتدائية، ومنها لمع نجمه كعالم جليل داخل السودان وخارجه، تماماً مثل زميله البروفيسور محمد الأمين حجر، الذي تعود جذوره إلى الكلاعيت بغرب كردفان، لكنه نشأ وتعلم في كبم ذاتها.
يكفي أن الشاعر عالم عباس هو من نعاه؛ عالم عباس صاحب دواوين: “إيقاعات الزمن الجامح” (1974)، “منك المعاني ومنا النشيد” (1984)، “ماريا وأمبوي” (1986)، “أشجار الأسئلة الكبرى”, “الرقص على المردوم”, “في انتظار الكتابة”, و*”شعاع من شمس المعشوق إلى قمر العاشق”*.
نعاه بكلمات تتدفق كما العطر من أنفاس الوطن: نفحة من عبق
على ذات شاي بذي حمرة
كالشفق
دماء الغزالة مسكوبة في الغسق
لدى مجفل الصيد
قرب الرهيد
في حمرة كالنبق في طبق
كحمر تسامى براووقه فانعتق
وكوب تدفّق ضوءاً شفيفاً شفيفاً إذا ما اتسق
فطف يا حريف وذق
رشفة ذاقها أبكم فنطق
وكل إنسان مطق.
وداعاً تيراب، يا من فتحتَ “نداء المسافة” ولم تغلقه.
ها نحن اليوم، من بعدك، ننادي… فلا يجيبنا سوى الصدى.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.