منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د ناجي ياسر يوسف إبراهيم يكتب: *الشريعة الإسلامية في السياسة السودانية*

0

د ناجي ياسر يوسف إبراهيم يكتب:

*الشريعة الإسلامية في السياسة السودانية*

لولا أن الخصومة غير الراشدة ، والتدخلات الخارجية الخبيثة هي التي تتحكم في السياسة السودانية لكان دستور العام 2005 الذي تم التوافق عليه بين القوي الوطنية يصلح أن يكون أساسا صالحا لتأسيس وحدة نموذجية بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والثقافة العربية وبين الجنوب ذي الثقافة الأفريقية الغالبة والديانات المتعددة ، ولكان إجابة منطقية لكل الجدل الذي إستطال عن علاقة الدين بالدولة ، فقامت بسبب ذلك الحروب والمعارك ، وتعمقت به الإنقسامات وتفرقت المسالك .
لقد إحتوي ذلك الدستور جماع الحكمة التاريخية الوطنية بإستيعابه لحساسية التعايش في دولة حديثة متعددة الديانات والأعراق ، وتحيط بها التحديات من كل جانب ، وبلغ النضج الفكري للتيارات السياسية في محتوي تلك الوثيقة الراقية مبلغ الرشد الذي يبحث عن المشتركات ويجافي أسباب الخلاف والإختلاف ، جاءت المادة الأولي للدستور لتؤكد علي أن السودان دولة ديمقراطية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان ، وتحاشي الدستور ذكر دين الدولة الرسمي وفي نفس الوقت ساوي بين مصادر التشريع ، ( الشريعة والإجماع والقيم لشمال السودان والأعراف والتقاليد والمعتقدات الدينية لجنوبه ) ، وبخصوص الحقوق والواجبات فقد ثبت النص أن المواطنة المتساوية هي المعيار لهما ، وأن جميع لغات السودان لغات قومية يجب إحترامها وتطويرها ، ذلك ما كان من أمر النصوص ، أما الممارسة فلم تخرج مما ألفته النخبة السودانية من خوض المعارك الخاسرة ، والخلط بين ماهو تكتيكي وما هو إستراتيجي من أجل تسجيل النقاط في شباك الخصوم وحيازة الإنتصارات الصغيرة ..
ظلت قضية الشريعة الإسلامية في صدارة القضايا الوطنية التي شهدت التجاذب والخلاف ، ومع أهمية أطروحة علاقة الدين بالدولة إلا أن المقاربة التي إعتمدتها النخبة المنقسمة عمقت حدة الصراع حول الموضوع ، وأثرت علي المطلوبات الوطنية لبناء دولة الرفاه والإستقرار بعد الإستقلال ، وقد تداخلت عوامل متعددة قادت لهذه النتائج منها قصور الرؤية التي طرحت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية خاصة مع تحدي الدولة الحديثة التي شادها الإستعمار ، والدور المحوري الذي قام به المستعمر نفسه بتخريجه أجيالا ممن إطمأن علي أنهم سيحملون رايته ويدافعون عنها بعد خروجه ، بجانب تأثير الصراع السياسي الحاد الذي حولها من مشروع كان يجب أن يكون ثابتا من ثوابت البناء الوطني إلي مجرد مشروع للتنافس السياسي تختلف حوله القوي السياسية إختلافا بائنا .
مفهوم الشريعة في التجربة السودانية :
تصلح المملكة السنارية في إعطائنا نموذجا عمليا لتطبيق الشريعة وفقا لمفهومها التاريخي في تجارب المسلمين ، وذلك بإعتبارها نموذجا حياتيا نابعا من ثقافة المجتمع ومعبرا عن تكوينه التلقائي ، وبما أن المملكة قامت أساسا علي مرجعية الإسلام وطورت لاحقا معارفعا العلمية والعرفانية في إطاره فإنها كانت تطبق الشريعة بتعريفها المقاصدي الرحيب الذي يشمل الأخلاق والعادات والمعاملات والعقائد والعبادات ، أو كما عرفها إبن تيمية ( والصواب أن الشريعة جامعة لكل عمل فيه صلاح الدين والدنيا وهو كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والعبادات والأصول والأعمال والسياسات والأحكام والعطيات ) وبجانب كل هذا المدي المفتوح من المباحات أضافت المملكة السنارية بعدا عرفانيا في ثقافة المجتمع قامت دعائمه علي الطرق الصوفية .
لقد كانت الشريعة الغراء هي التعبير الطبيعي للمجتمعات في ممالك السودان الوسيط في سنار وتقلي والمسبعات ودارفور ، وعلي الرغم من العزلة الجغرافية للسودان عن مراكز العالم الإسلامي الحضارية وحداثة الإسلام إلا أن الحركة العلمية سرعان ما إنتظمت تلك المجتمعات ، ففي مملكة سنار ( كبري هذه الممالك ) إنفتح ملوكها علي تعميق العلم الشرعي ودعوة العلماء والفقهاء إلي الدولة الوليدة ، وكان ظهور شخصيات كغلام الله بن عائد وأولاد جابر ومحمود العركي علامة مهمة لنشر الثفاقة الإسلامية ، ثم جاءت الطرق الصوفية إبتداء من زيارة تاج الدين البهاري والشيخ حمد أبو دنانة وأخرين نهاية القرن السادس عشر الميلادى ، وهو الأمر الذي جعل دعائم الإسلام تقوم علي ساقي الشريعة والحقيقة .
وفي مجال القضاء تم إنشاء المحكمة الكبري بسنار والمحاكم الصغري في أطرافها المختلفة ، وبجانب هذه المحاكم كان ( قضاة الشريعة البيضاء ) وهم علماء متخصصون في الشريعة يقومون بالفصل في الخصومات في البوادي والقري بالشريعة فقط ، كما أن ( قضاء الأجاويد ) كان منتشرا في ذلك الوقت وهو أشبه بالتحكيم في زماننا ، ويقول محمد حسن المفتي في مؤلفه القيم ( تطور نظام القضاء في السودان ) إن ( القضاة جميعهم من الرجال الصالحين وكان كل منهم عالما عاملا عادلا ورعا تقيا وشيخا إسلاميا آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر وقد إشتهر كل منهم بين

قومه بالمروءة والوفاء بالعهد ) . وما جعل الشريعة نظاما للمجتمع والقضاء هو أنها نشأت مستقلة عن سلطان الدولة وكانت تعبيرا طبيعيا عن تلك المجتمعات التي إعتنقت الإسلام فقام نظام حياتها وفقا لشروطه ، كما أنهم عرفوا يقينا أن ( الشريعة لم تأت لتعيد تصميم النظام الإجتماعي ، وهو ما فعلته الدولة الحديثة ، بل أتت لتوجهه علي وفق ما يمكن أن يسمي العرف والمعروف وكان هدفها إقامة العدل وإيجاد التناغم الإجتماعي الذين يفضيان إلي تمكين البني الإجتماعية من أداء مهماتها بسلاسة ) وهذا المعني الذي يؤكده وائل حلاق كان حاضرا في الوعي الإجتماعي والسلطاني في ممالك السودان القديمة التي إستمدت روح تشريعها من مفاهيم الشريعة المستقرة في المعرفة الإسلامية وتجاربها في مجتمعات المسلمين ، ولذلك لم تحصر الشريعة في مجال القوانين فقط ، وإنما تعاملت بها تلقائيا في مجال المعاملات والعقائد والقوانين ، ولعل تأثر تلك الممالك بمذهب الإمام مالك الذي يعظم المقاصد والإستحسان وجلب المصالح وسد الذرائع وخاصة في العقوبات والبيوع قد يسر للحكام والقضاة تمثل الشريعة في الحياة العامة وفي القضاء ، ويعزي تقبل الشريعة من العامة ونجاحها في ذلك الوقت أنها أي ( الشريعة لم تكن مجرد نظام قضائي أو مذهب فقهي تنحصر وظيفته في تنظيم العلاقات الإجتماعية وتسوية النزاعات بين الناس ، وإنما كانت ممارسة خطابية ربطت نفسها بنيويا وعضويا بالعالم من حولها وأنها نمت وترعرعت في قلب النظام الإجتماعي الذي أتت لتخدمه ) وائل حلاق ـ ماهي الشريعة ..
الشريعة كأيديولوجيا :
بدأت أولي بوادر الخلاف والإنقسام حول الشريعة في عهد الدولة المهدية ، فقد إبتدر المهدي دعوته بإلغاء المذاهب الإسلامية ، وإضافته أصلا جديدا لأصول التشريع المستقرة عند المسلمين وهو التشريع عن طريق ( الإلهام والكشف والهواتف والحضرات ) فصارت مصادر التشريع هي القرآن والسنة ومنشورات المهدي ، وبذلك آلت رئاسة القضاء العليا للإمام المهدي علي عكس ما كان عليه الأمر من إستقلالية الشريعة كمنظومة مجتمعية ، وإستقلال القضاة والمحاكم في المملكة السنارية ، ويعتبر منشور قواعد الأحكام الصادر عن الإمام المهدي نموذجا جيدا لعقلية التشريع التي سادت خلال تلك الفترة ( ومن تكلم بفاحشة فعليه ثمانون سوطا ، ومن قال لأخية يا كلب أو يا خنزير أو يا يهودي أو يا ديوث أو يا كافر أو يا نصراني فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام ، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا بأمر شرعي يجوز ذلك فيؤدب بسبعة وعشرين سوطا ومن شرب الدخان فيؤدب بثمانين سوطا , وبنت خمس سنين إن لم يسترها أهلها يضربون عليها ) .
وبما أن الإمام المهدي كان يري أن عصر الخديوية المصرية التي إمتدت ستين عاما قبل الثورة المهدية عصر جاهلية وكفر مثلما كان عليه الوضع في مكة قبل بزوغ شمس الإسلام عليها فقد حمل علي عاتقه مهمة إعادة بناء المجتمع الإسلامي ، ولم يكن لتلك المهمة أن تبدأ إلا بهدم القديم وإلغاء إلتزاماته حتي في عقود الزواج ، وإقامة البناء الجديد علي أسس المنهج الذي جاء به الإمام المهدي . وبإعتماد المهدي وخليفته من بعده إجتهادهما القائم علي المنشورات كمصدر ثالث للتشريع بدأت عقيدة المهدية تظهر بوجهها الأبرز مكونة ثقافة جديدة في سيرورة تطبيق الشريعة في السودان ، وهي الثقافة القائمة علي إستولاد أيدولوجيا محددة , أو فلنقل نسق فكري خاص يقوم علي فهم مخصوص للشريعة يستمد حجبته من تفسير المهدي ومن بعده خليفته للنصوص القرآنية والحديثية , إذ بإسقاطهما لإرث المسلمين الفقهي الذي بنيت قواعده عبر مسيرة طويلة من الإجتهاد الذي ولد إطارا فضفاضا أعطي الشريعة إستقلاليتها وحيويتها في مجتمعات المسلمين فإنهما أسسا لخلاف عميق في البنية الإسلامية كانت نتيجته إنفصال طبقة العلماء التي نمت طوال عهد الحكم التركي المصري في السودان عن المهدية ، بل وقادت هذه الطبقة ثورة تفسيرية مضادة تركن إلي الفقه التقليدي المعروف بين جماهير المسلمين لتحارب المهدية برؤية مضادة من داخل الدين الإسلامي ، ورغم هذه المعركة الحادة ظل الخلاف بين الفريقين محصورا حول الطريقة المثلي لتطبيق الشريعة الإسلامية .
كيف نشأ الصراع علي الشريعة :
أحدث المستعمر الإنجليزي إنقلابا حقيقيا في المجتمع السوداني ، وذلك بهده لبنيان الشريعة الذي ظل يحكم السودان قرونا متطاولة ، وكعادة الإستعمار كان الإنجليز يعتقدون أن الشريعة لا تصلح لإدارة الدولة الحديثة ، بل وأن المجتمعات التي جاءوا إليها مجتمعات غارقة في الظلام حسبما لخص القس سبنسر تريمنجهام في كتابه ( الإسلام في السودان ) ، ( كان موقف البريطانيين منذ البداية إعتبار السودان شعبا مستغلا متخلفا ) ولذلك إبتدر البريطانيون تشريع قوانين حديثة أتوا بها من الهند وبريطانيا شيدوا بها نظاما قضائيا حديثا ، ولكنهم كانوا من المكر والدهاء بحيث لم يريدوا إستفزاز المسلمين فأقاموا نظاما آخر موازيا ولكنه أقل أهمية وإهتماما وأوكلوا إليه مهمة

القضاء الشرعي للنظر في قضايا الأحوال الشخصية للمسلمين ، وهكذا نجح المستعمر في ترسيخ فكرة الثنائية في القضاء وفي بذر النظرة الإحتقارية لكل ما مثلته الشريعة من نظام ومصادر للتشريع .
بدأت معركة تطبيق الشريعة مباشرة بعد خروج المستعمر بين نخبة تشربت مبادئ القانون الغربي ونظمه الأخلاقية وبين طائفة إسلامية كانت ناشئة تستشعر في نفسها ضعف البدايات فلجأت إلي تحالف تتناصر به في مواجهة البيئة المتغربة والمتقوية بأجهزة الدولة وسلطانها ، وكان أهم ما ميز الصف الإسلامي ميزتان ستكونان لاحقا مجال الصراع حول الشريعة مع القوي العلمانية ، الميزة الأولي هي إعتماد التيار المركزي عند الإسلاميين بشكل كلي علي الدولة لإحداث التغيير الإجتماعي وأن نظريته للإصلاح تقوم علي التمكن من السلطان السياسي ومن ثم فرض الإصلاح من أعلي بالتي هي أحسن أو حتي بالتي ( هي أخشن ) إن توفرت الفرصة لذلك ، واستند البعض في تبريرهذه الرؤية علي أثر ورد عند سيدنا عثمان بن عفان وشاع عندهم علي أنه حديث نبوي ، وهو ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، وعلي كل فقد إستشعرت النخبة العلمانية خطورة هذه الفئة التي تريد منازلتها فيما تعتبره عقر دارها وهو( تمثال الدولة الحديثة الموروثة من الإنجليز ) ..
الميزة الثانية هي حصر المنازلة مع القوي العلمانية حول أطروحة الدستور الإسلامي والقوانين ، أو فلنقل حصر الشريعة في جانبها التشريعي ، حيث تم توظيفها شعارا لإحراج القوي السياسية وخاصة تلك المستندة علي طائفتي الختمية والأنصار بمرجعياتهم الإسلامية ، ومناجزة الحزب الشيوعي الذي كان في قمة عنفوانه في ذلك الوقت ، وطوال الفترة التي أعقبت الإستقلال وحتي قيام ثورة مايو في العام 1969 لم تكن الأطروحة واضحة عند الإسلاميين ، ويؤكد إستعانتهم بسكرتير أبو الأعلي المودودي ظفرالله الأنصاري لوضع مسودة الدستور أن الرؤية حول الشريعة لم تتبلور بعد ، علي أن ذلك لم يكن سببا عند الترابي لتأجيل المطالبة بتطبيق الشريعة ( ولا يصح تأخير نزول الحق حتي تتوافر كل المباحث العلمية التي تجليه وتتهيأ من نفسها تصاريف الظروف ، بل هدي الدين أن يسارع إلي الحق ما بانت وجهته العامة وإلي الخير ما رتسمت معالمه الأساسية ) ..
نواصل في الحلقة القادمة بحث تطورات الصراع حول الشريعة ، وكيف تحول النزاع إلي صراع سياسي حاد وظفت الشريعة وقودا له بينما كان التطور السياسي قد حسم وجهة البلاد منذ أن نص دستور العام 1973 علي أن الشريعة الإسلامية مصدر للتشريع في السودان ، وبعد توقيع الدكتور الترابي وزير العدل حينها علي تقرير لجنة مراجعة القوانين في العام 1978 والتي وجدت أن 10% فقط من جملة 286 قانون راجعتها اللجنة كان بحاجة لتعديل بعض موادها لتتسق مع الشريعة الإسلامية ..

● نقلا عن الجزيرة نت

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.