وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي *كامل إدريس.. الترحيب بالانتقال*
وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي
*كامل إدريس.. الترحيب بالانتقال*
في مشهد وطني جرت مراسمه بمدينة بورتسودان، أدى الدكتور كامل الطيب إدريس اليمين الدستورية رئيسًا لمجلس الوزراء، ليبدأ بذلك فصلًا جديدًا من فصول الانتقال السياسي في السودان، بعد فراغ تنفيذي دام أربع سنوات. لحظة التعيين، تجاوزت الإجراءًات الدستورية، الي اختبار حقيقية لما تبقى من آمال في إنقاذ مسار الدولة السودانية.
لا شك أن اختيار الدكتور إدريس في هذا التوقيت يعكس إدراكًا من صناع القرار بأن المرحلة تتطلب شخصية ذات كفاءة وطنية وخبرة دولية ، قادرة على مخاطبة الداخل وموازنة علاقات الخارج. فالرجل، بسيرته الأكاديمية والدبلوماسية، وابتعاده عن الصراعات الحزبية، حظي بقبول واسع ورفع من سقف التوقعات بشأن ما يمكن أن ينجزه.. لاسيما انه بالأمس قدم خطابا عبر عن خطة عمل واعدة.
غير أن الترحيب الذي قوبل به إدريس، سواء على مستوى الشارع أو عبر منصات التواصل، لا يعكس فقط القبول بشخصه، بل يعكس في جوهره توقًا عامًا للخروج من نفق الأزمة، وتطلعًا إلى كفاءة قادرة على مخاطبة تحديات ما بعد الحرب.
وما يمكن ملاحظته بوضوح في تفاعلات السودانيين مع تعيينه، هو أن الترحيب لم يكن محصورًا في شخصه أو سيرته الذاتية، بل اتسع ليشمل الفعل السياسي ذاته، الانتقال من واقع الحرب إلى أفق السلام، ومن فراغ السلطة إلى ملامح دولة. فالسودانيون الذين عايشوا الفوضى والانهيار، لم يعودوا يبحثون عن “منقذ فرد”، بقدر ما يتطلعون إلى بداية جديدة تعيد تعريف الدولة كحاضنة للأمن والخدمات والمؤسسات، بعيدًا عن الحروب والاقتتال.
لذلك فإن الترحيب بإدريس يعبّر عمّا يمكن تسميته بـ”أمل الحد الأدنى”؛ أي الترحيب بفكرة الانتقال ذاتها، بغض النظر عن شخوصها: من سلطة الميليشيا إلى سيادة القانون، ومن الخوف والتشظي إلى نظام مستقيم يمكن التنبؤ به.
في هذا السياق، يكتسب خطابه دلالات عالية، إذ يمثل الانتقال من دولة مؤجلة تكتنفها النزاعات، إلى دولة ممكنة يسودها الأمن والسلام، ومن ساحة الخطابات الصفرية التي ميّزت الأحزاب خلال الفترة الماضية، إلى مشروع سياسي وطني جامع قابل للتنفيذ على أرض الواقع.
توقيت تعيين إدريس لا يخلو من مغزى مهم؛ فهو يأتي في ظل فراغ سياسي وتشريعي، وتدهور اقتصادي وخدمي واسع، فضلًا عن اضطرابات أمنية. لقد جاء الرجل إلى السلطة بعد أن نال السودان نصيبه الكامل من الفشل السياسي والانقسامات، منذ سقوط نظام البشير في 2019، وما تلاه من عنف مسلح مزّق النسيج الوطني وخلّف دمارًا شاملاً في عدة ولايات.
وفي ظل غياب مجلس تشريعي فاعل، واستمرار وزراء من الحركات المسلحة رغم انتهاء تفويضهم بموجب اتفاق جوبا للسلام، تبرز أمام رئيس الوزراء الجديد معضلة هيكلية تتعلق بشرعية الفريق الحكومي نفسه، وبتداخل الصلاحيات وغياب الوضوح المؤسسي الذي طالما أعاق الدولة السودانية. وهنا تبرز أهمية خبرته وحكمته، ومدى قدرته على إقناع القوى المختلفة بتشكيل فريق عمل استثنائي يؤسس لمرحلة جديدة.
من المهم التمييز بين “شرعية التعيين” و”شرعية الإنجاز”. فقد منح رئيس مجلس السيادة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، الدكتور إدريس صلاحيات واسعة لتشكيل حكومة جديدة عقب عطلة عيد الأضحى. إلا أن هذه الصلاحيات، رغم أهميتها، لا تضمن النجاح في سياق سياسي مضطرب، ما لم تُدعَم بحاضنة وطنية ، ومشروع حكومي واضح. وهنا تتجلّى عظمة الشعب السوداني في دعمه للرجل.
فمن دون إرادة سياسية جماعية تتجاوز منطق المحاصصة، وتتبنى مشروعًا تأسيسيًا فعليًا، سيظل تعيين إدريس خطوة إدارية بلا أفق تغييري حقيقي. والتحدي لا يكمن في تشكيل حكومة “جديدة” فحسب، بل في إعادة تعريف وظيفة الحكم الانتقالي، وترسيخ مبدأ الحكم الرشيد في فترة تتسم بالهشاشة المؤسسية.
الصور التي تداولها الناشطون لرئيس الوزراء وهو يسجد لله شكرًا فور وصوله إلى بورتسودان، وإن كانت مؤثرة في دلالاتها، إلا أنها لا تكفي لتشكيل إجماع وطني حول قدرته على إنجاز التحول المطلوب. فالسودانيون ينتظرون ما هو أكبر من الرموز والعواطف؛ ينتظرون إدارة حقيقية لملف إعادة الإعمار، وإنهاء التشظي، وتحسين معاش الناس، واستعادة الثقة في مؤسسات الحكم والدولة.
وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن السودان بحاجة إلى ما يمكن تسميته بـ”عقد اجتماعي جديد”، يضع حدًا لحالة الانقسام، ويؤسس لدولة المؤسسات. وفي هذا السياق، لا ينبغي النظر إلى كامل إدريس كـ”رجل الإنقاذ الفرد”، بل كمدخل لصياغة مسار سياسي جامع. وكما يقول الدكتور عماد الدين خليل: “إن الأحداث لا تصنع التاريخ، بل الإرادة الواعية التي تلتقط لحظة الحدث وتحوّله إلى مشروع. فالأمم لا تنهض بالتحولات الطارئة، بل عندما تملك الرؤية التي تضع الظرف في سياق موضوعي من البناء والتغيير.”
دمتم بخير وعافية.
الاثنين 2 يونيو 2025م Shglawi55@gmail.com