منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

أمواج ناعمة د. ياسر محجوب الحسين *سد النهضة.. الغفلة الاستراتيجية*

0

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

*سد النهضة.. الغفلة الاستراتيجية*

بينما يُطرح سد النهضة بوصفه أزمة منفصلة، فإن جذوره تمتد أعمق إلى اتفاقيات حوض النيل، وعلى رأسها اتفاقية عنتيبي التي دخلت حيّز التنفيذ في أكتوبر 2023، متجاوزة اتفاقيات تاريخية كرّست حقوق مصر والسودان المائية. ومع أن الاتفاقية تُروَّج كإطار عادل لتقاسم المياه، فإنها عمليا تفتح الباب أمام مشاريع أحادية كالسدود والخزانات دون الرجوع لدول المصب، ما يجعلها تهديدا استراتيجيا. في هذا السياق الإقليمي المتشابك، برز سد النهضة كأحد أخطر تجليات هذا المسار، كاشفا هشاشة النظام القانوني، وغياب الإرادة التعاونية، وتفاقم التنافس الإقليمي، لا سيما حين يتقاطع مع مشهد سياسي سوداني مضطرب.

لا يبدو أن الحديث عن إزالة حكومة الإنقاذ من جانب قوى خارجية كان من أسبابه سد النهضة، خاصة بزعم أنها حكومة أيدولوجية تعارض المشروع أو تعرقل أهدافه. بل على العكس، كانت حكومة الإنقاذ من أكبر المؤيدين لسد النهضة الإثيوبي، وذهبت بعيدا في دعمه إلى درجة التضحية بعلاقاتها الإستراتيجية التقليدية مع مصر آنذاك. هذا الموقف لم يكن عابرا، بل كان موقفا رسميا تمثل في تصريحات قياداتها، بل وتقديمها تبريرات اقتصادية وفنية لدعم المشروع، باعتبار أن السد سيوفر طاقة رخيصة وينظّم انسياب المياه نحو السودان، وهو ما كانت تراه مفيدا، على الأقل ظاهريا، للزراعة وتوليد الكهرباء.

ومن الجوانب التي تغافلت عنها حكومة الإنقاذ – أو تجاهلتها عمدا – أن منطقة بني شنقول، التي أُقيم عليها سد النهضة، ليست مجرد أرض إثيوبية خالصة كما تُقدَّم في الخطاب الرسمي الإثيوبي، بل هي في الحقيقة منطقة سودانية من حيث الجغرافيا والسكان، إذ تسكنها مجموعات عرقية سودانية كالفونج والبرتا، وكانت تاريخيا جزءا من السلطنة الزرقاء. وقد تم التنازل عنها لصالح إثيوبيا بموجب اتفاقية وُقعت في 14 مايو 1902 بين الإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني والحكومة البريطانية التي كانت تدير السودان آنذاك، ونصّت صراحة على امتناع إثيوبيا عن إقامة أي مشروعات مائية على النيل الأزرق أو روافده دون موافقة حكومة السودان.

لكن حكومة الإنقاذ، عندما دعمت مشروع سد النهضة، تجاهلت هذه الحقيقة التاريخية والسيادية بالكامل، ولم تتعامل مع الاتفاقية بوصفها أداة قانونية يمكن أن تعزز الموقف السوداني، سواء في المفاوضات أو أمام المحافل الدولية. بهذا، فرّطت الحكومة في ورقة تفاوضية بالغة الأهمية، واختزلت الأمر في حسابات فنية واقتصادية آنية، دون إدراك أو اعتراف بالخطر الإستراتيجي المرتبط بالموقع، وبحقوق السودان في الأرض وفي المياه.

ومن المدهش أن الموقف السوداني الرسمي من السد لم يتحوّل إلى المعارضة إلا بعد ذهاب حكومة الإنقاذ في أبريل 2019، ليصبح تدريجيا أقرب إلى الموقف المصري، لا سيما فيما يتعلق بمخاوف تقليص حصص المياه ومخاطر انهيار السد، وهو ما يعكس تغيرا في الأولويات أو درجة الوعي بالمخاطر المتأخرة.

إذا سلّمنا بصحة التحليل الذي يربط بين بناء السد والطمع في أراضي الفشقة والجزيرة والنيل الأزرق، فإن موقف حكومة الإنقاذ من السد – وليس معارضتها – هو ما يدحض الفرضية بأن إزاحتها جاءت بسبب موقفها من السد. الإنقاذ لم تعارض السد؛ بل كانت شريكا في شرعنته سياسيا على الأقل.

أما ما ذُكر من مزاعم إثيوبية تروّج إلى أن سد النهضة بُني ليستفيد منه «الغير» في أراضي السودان بينما لا تستفيد منه إثيوبيا، فهي قراءة مغرقة في التبسيط أو ربما محاولة لإسقاط مشروع السد على فرضيات المؤامرة الواسعة دون تقديم قرائن مادية كافية. لا شك أن هناك بعدا اقتصاديا وجيوسياسيا ضخما لبناء السد، وأن هناك تنازعا على الموارد، لكن من غير الدقيق أن نعتبر أن «جهات وراء السد» أزاحت الإنقاذ فقط لأنها أيدولوجية، في حين أن سياسات تلك الحكومة كانت تخدم مشروع السد أكثر مما كانت تعارضه.

ورغم أن الولايات المتحدة لم تموّل سد النهضة بشكل مباشر، فإنها قدمت غطاء دبلوماسيا لإثيوبيا في مراحل مختلفة، خصوصا في عهد أوباما، وامتنعت عن ممارسة ضغط حقيقي لوقف المشروع. كما ساهمت بعض الشركات الأميركية في مشاريع طاقة مرتبطة به. أما إسرائيل، فرغم غياب أي إعلان رسمي عن دعمها، فإن تقارير عديدة تشير إلى دعم غير مباشر عبر التعاون الاستخباري والعسكري، في ظل علاقاتها التاريخية مع إثيوبيا. ويُرجّح أن كلا الطرفين يرى في السد أداة لإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة، وإضعاف النفوذ المصري–السوداني المشترك.

كما أن استدعاء – الذين يتبنون فرضية أن سبب إزاحة حكومة – لحادثة اغتيال المهندس “سيمغنيو بيكيلي” مدير السد حينها، رغم أهميتها وغموضها، لا يكفي ليُبنى عليها تحليل سياسي كامل يربط بين اغتياله وتغيّر المسرح السياسي في السودان. ما جرى في السودان في 2019 كان له تعقيدات داخلية عميقة – اقتصادية وسياسية وأمنية – لا تقل أثرا عن العوامل الإقليمية.

وفي النهاية، إذا كان هناك مشروعٌ إقليمي لتفريغ مناطق السودان من سكانها واستغلال ثرواتها، فإن المسؤولية لا تقع فقط على قوى خارجية، بل أيضا على الحكومات السودانية المتعاقبة التي لم تبنِ مؤسسات قادرة على حماية هذه الموارد أو تحقيق التنمية المتوازنة، بما فيها حكومة الإنقاذ نفسها، التي لم تكن بريئة من إخفاقات جسيمة في إدارة ملف السيادة والموارد.

كاتب سوداني – المملكة المتحدة
https://www.al-watan.com/article/179498/آراء-و-قضايا/سد-النهضة-الغفلة-الاستراتيجية

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.