د.معاوية التوم يكتب ✍️ *الحرب وإسقاطاتها على الأمن القومي السوداني !؟*
د.معاوية التوم يكتب ✍️
*الحرب وإسقاطاتها على الأمن القومي السوداني !؟*
مقدمة
تمثل الحرب المفروضة على السودان منذ أبريل 2023 من قبل قوات الدعم السريع المتمردة ورعاياها الكثر، واحدة من أكثر الحروب تعقيداً وخطورة في تاريخ البلاد والاقليم. فقد اسفر هذا العدوان المفتوح عن كلفة بشرية ومادية كبيرة وتمظهرات مختلفة ستظل تمسك بتلابيب البلاد من أن تقف على رجليها لبعض الوقت . وقد أدت بالفعل إلى تفكك مؤسسات الدولة، وانهيار الاقتصاد، ونزوح ولجوء ملايين المواطنين، مما ألقى بظلال إنسانية كثيفة على جوهر و مستقبل الأمن القومي السوداني. فليس من المبالغة القول إن السودان بات مهدداً وجودياً، لا فقط في أمنه العسكري، بل في كيانه الجغرافي، ونسيجه الاجتماعي، وسيادته الوطنية. لذا نسلط الضوء على أبرز هذه التحديات على النحو التالي:
أولاً: محاولة تفكيك الدولة وفقدان السيطرة
لقد صمد الجيش والسلطة المركزية في السودان بصورة غير مسبوقة واسقطوا هذا الهدف ، رغم خضوع وسيطرة قوات التمرد على مساحات واسعة من البلاد لما يزيد عن العامين . وشهدت مناطق عديدة، كدارفور وأجزاء من الخرطوم وكردفان، غياباً شبه تام لمؤسسات الدولة، حتى تحرير بعضها موخراً، وتم استعادة السيطرة عليها ، حيث كانت مهمة معقدة تطلبت جهوداً أمنية وسياسية متكاملة. وقد تمكنت الدولة من استعادة السيادة الوطنية على كامل ولايات الخرطوم، الجزيرة، سنار، النيل الأزرق،النيل الآبيض بحسبانها الأكثر تأثرا ، ويجري العمل لاستكمال النصر في مناطق كردفان ودارفور حيث مثل وجود التمرد تهديداً مباشراً لوحدة البلاد واستقرارها. ورمى لضرب وتفكيك البنية الامنية برمتها. لكن تبقى العظة في حماية الدولة وتأمين كيانها وسلامته في المحك من واقع التجارب والشواهد، والتجهيزات وكمية العدة والعتاد والمرتزقة الذين اعدوا لهذه المهمة.
ثانياً: التهديدات العابرة للحدود
السودان بلد تحيط به دول غير مستقرة، وتنتشر عبر حدوده الطويلة أنشطة تهريب السلاح والبشر والذهب، والممتلكات المهربة فضلاً عن احتمالات تسلل الجماعات الإرهابية واستغلالها للفراغ الأمني وحالة السيولة. وقد ساهمت هشاشة الحدود في تصاعد النفوذ الأجنبي بدعم إماراتي للتمرد واستخدام وتوظيف للأراضي السودانية، لاجل دعم هذه المليشيا أو تسليح مجموعات تعمل بالوكالة لتحقيق أهداف إقليمية. يوجب الحيطة والحذر في تأمين الحدود التي تتعرض هي الأخرى لضغوط دولية كثيفة لفتحها بذريعة تدفق المساعدات الإنسانية والاحتياجات الملحة للمواطنيين.
ثالثاً: الأمن الاقتصادي والغذائي
انهيار مؤسسات الإنتاج، وتدمير البنية التحتية، الصناعية بالعاصمة الخرطوم، وتعطل حركة التجارة، والموسم الزراعي، جميعها عوامل أدت إلى تدهور الأمن الغذائي بشكل حاد. وتزايد الاعتماد على اقتصاد الحرب الذي تسيطر عليه القوى المسلحة، مما هدد بترسيخ حالة الفوضى وتعميق الأزمة الاقتصادية. وفي ظل غياب الرقابة على الموارد المعدنية والسيطرة عليها ، أصبحت الموارد الطبيعية مثل الذهب مصدراً للتمويل العسكري للتمرد لا للتنمية الوطنية.
رابعاً: فشل نزع السلاح وإعادة الدمج
تُعد عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة دمج المقاتلين بالحركات المسلحة (DDR) من أعقد المهام في المرحلة القادمة. فانتشار السلاح خارج سيطرة الدولة، ووجود آلاف المقاتلين مندمجين في اقتصاد الحرب، يجعل من إعادة تأهيلهم ودمجهم في الحياة المدنية تحدياً أمنياً واجتماعياً بالغ الصعوبة والخطورة. ويزداد الخطر مع عودة المرتزقة أو تحول هؤلاء المقاتلين إلى مجرمين عابرين للحدود. الأمر الذي يدعو بالمسارعة لمعالجة هذا الملف الحساس والبلاد تستشرف تحولا جديدا في البناء التنفيذي وطي صفحة الحرب.
خامساً: الانقسامات الإثنية والجهوية
عمّقت الحرب من الانقسامات الإثنية والجهوية في البلاد، وتفشي خطاب الكراهية حيث جرى توظيف الهوية سلاحاً في الصراع. وأسهمت التعبئة القبلية والتمييز المناطقي في تفكيك النسيج الوطني، وخلق بيئة حاضنة للصراعات طويلة الأمد. إن أخطر ما يهدد الأمن القومي السوداني اليوم هو التحول من دولة ذات صراعات سياسية إلى دولة يراد لها ان تنهار على أسس إثنية عرقية أو جهوية مناطقية.
سادساً: التدخلات الخارجية والصراع بالوكالة
لم يعد السودان ساحة نزاع داخلي فحسب، بل أصبح ميداناً لتقاطع مصالح إقليمية ودولية. وقد ساهمت قوى إقليمية وخارجية بدعم التمرد بالسلاح والمال لاشعال الحرب ، في إطار صراعات النفوذ على البحر الأحمر والموارد الطبيعية. وتحوّل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة، يضعف من استقلالية قراره السياسي، ويجعل أي تسوية داخلية مرتهنة بتوازنات خارجية غير معنية باستقرار البلاد وأمنها القومي.
سابعاً: تقوية بناء المؤسسات الأمنية والعسكرية
فقدت مؤسسات الدولة الأمنية الكثير من قدراتها وهيبتها خلال الحرب، جراء التجريف والاختراق سواء عبر الانقسام داخل القوات النظامية، أو التدمير المادي الذي طال البنى التحتية للجيش والشرطة والأمن. وتحتاج البلاد إلى عملية شاملة لإصلاح قطاع الأمن، تعيد بناء هذه المؤسسات على أسس وطنية ومهنية بعيدة عن الولاءات الجهوية أو السياسية، وضمان تثويرها بصورة اكثر مهنية واحترافية .
ثامناً: أزمة النزوح واللجوء
أنتجت الحرب أكبر موجة نزوح ولجوء في تاريخ السودان، يعد أبرز تجليات هذه المأساة على الصعيد الإنساني. حيث تجاوز عدد النازحين داخلياً واللاجئين في الخارج عشرة ملايين شخص. وتشكّل هذه الأزمة ضغطاً إنسانياً وأمنياً بالغاً، وابتزاز لانسان السودان في الظرف الذي فرضه واقع الحرب لا سيما في المخيمات العشوائية التي باتت معرضة للاستقطاب المسلح والأمراض والفقر أو أن تتحول إلى بيئات حاضنة للعنف، ما لم تُعالج بشكل عاجل وجاد.
خاتمة
الأمن القومي السوداني لما بعد الحرب يواجه تحديات غير مسبوقة، تتجاوز البعد العسكري لتشمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإنساني. ولن يكون بالإمكان بناء سودان مستقر وآمن دون رؤية شاملة لإعادة بناء الدولة، في ظل الحرب السبرانية، الذكاء الاصطناعي والمسيرات . نحتاج معها لتمتين ركائز الامن القومي بمفهومه الشامل والتي يتصدرها:
• إصلاح شامل لمؤسسات الدولة وأجهزتها المختصة ، واعادة ترتيب الخطة الامنية القومية للبلاد بمنظور الامن الشامل وآثار الحرب والمهددات.
• تحييد التدخلات الخارجية واستعادة القرار الوطني.
• بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على العدالة والمساواة والتنوع.
• إشراك المجتمع المحلي بمقاربة إقليمية ودولية لا تتجاوز المبادرة الوطنية في إنفاذ عملية سلام حقيقية لا تقوم على المحاصصات بل على بناء دولة القانون والمؤسسات.
المنظومة الامنية بالسودان لها ارث وتاريخ تليد برصيد يميزها بين المكونات الامنية الاقليمية. لكن اثر الحرب المتعاظم على مطلوبات الامن القومي والمهددات التي برزت، تحتاج معها البلاد الي اعادة صياغة التدابير الامنية الوطنية من حيث المفهوم الكلي والخطط والأجهزة . وقد أفلحت المؤسسة العسكرية بكل أركانها من استعادة المبادرة العسكرية وسجلت الانتصارات والتحدي ما يزال . بل إن مستقبل السودان في ظل هذه التحديات الماثلة والتعقيدات التي جلبتها الحرب بحاجة لجهد استثنائي ومقاربة فكرية شاملة . في ظل استمرار تربص بعض القوى الاقليمية والدولية النافذة بمخططات تحمل سيلا من الضغوط، تقف حجرة عثرة أمام اي تقدم يحرز او منجز وطني تسطره الدولة . وهذا يجعل الأمن القومي للبلاد مرهون بقدرته على تجاوز هذا المنعطف التاريخي نحو تأسيس دولة مدنية ديمقراطية تنعم بالأمن والاستقرار.. بدأت معالمها بتعيين رئيس وزراء مدني ، وتمضي الجهود لاستكمال مطلوبات هذا البناء بخطى سودانية واثقة بعيدة عن التدخلات الخارجية وحرب الإرادات، بعد أن فشلت حرب السلاح والخيانة والعمالة والتآمر الاقليمي، فما اكثر العبر وأقل الاعتبار !؟
⸻
٣ يونيو ٢٠٢٥ م