*“المؤتمر الوطني”… تتغيّر الوجوه، فهل تغيّرت المرجعيات؟* د. ياسر محجوب الحسين
*“المؤتمر الوطني”… تتغيّر الوجوه، فهل تغيّرت المرجعيات؟*
د. ياسر محجوب الحسين
أثارت تصريحات رئيس المؤتمر الوطني، أحمد هارون – وهو يمثل أحد جناحين متنافسين – خلال اليومين الماضيين، جدلا واسعا في الأوساط السياسية والإعلامية، لا سيما في ظل تباشير حسم الحرب الدائرة في السودان من جانب الجيش، وتنامي حضور الفاعلين الإسلاميين في المعركة. هذه التصريحات التي بدا فيها هارون حريصا على التأكيد على “وطنية” الحزب، ونفي أي علاقة تنظيمية مع الحركة الإسلامية أو ارتباط خارجي، لم تكن مجرد مواقف عابرة أو اجتهادات فردية، بل تنتمي إلى لحظة سياسية مشحونة يُعاد فيها رسم خارطة القوى داخل معسكر الإسلاميين نفسه، وتُعاد فيها صياغة العلاقة بين الجيش، والحركة الإسلامية، والمؤتمر الوطني أو هكذا يراد لها.
من بين أهم دلالات خطاب هارون الأخير، ظهوره الواضح كمن يحاول رسم مسافة بين المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية التي كانت – ولا تزال – الرافعة الفكرية والتنظيمية للحزب منذ نشأته. فالحديث عن عدم وجود صلات بأي تنظيمات إسلامية عالمية، والتأكيد على الانتماء الوطني الخالص، ورفض العودة للسلطة إلا عبر صناديق الاقتراع، هو في جوهره خطاب “تطبيعي” مع الجيش، يسعى لتقديم الحزب كحليف قابل للتعامل مع الواقع الجديد، وليس كامتداد لحركة إسلامية ذات أجندات أوسع.
لكن هذا التوجه لا يخلو من كُلفة سياسية، فالمؤتمر الوطني – كامتداد للحركة الإسلامية – استمدّ جزءا كبيرا من شرعيته من مشروعه الفكري والرسالي، وكان يطرح نفسه بوصفه حاملا لمشروع حضاري قد يتجاوز البعد المحلي إلى ما هو أبعد. وفك الارتباط مع هذا المشروع، ولو شكليا، قد يعني التخلي عن أحد آخر معاقل الهوية السياسية التي كانت تُميّز الحزب، خاصة في ظل فقدانه السلطة وتفككه التنظيمي بعد سقوط نظامه في 2019. من هذه الزاوية، تبدو محاولة أحمد هارون مخاطرة حقيقية، ليس فقط على مستوى العلاقة مع الشارع العريض أو القواعد، بل أيضا في صميم مرجعيات الحزب ومبادئه، حتى لو قُصد منها أن تكون مناورة تكتيكية لتعاطي واقعي مع لحظة سياسية ماثلة ومضطربة.
من المهم أن تُقرأ هذه التصريحات كذلك في سياق التنافس الداخلي الحاد بين جناحي المؤتمر الوطني: الجناح الذي يتزعمه أحمد هارون، والجناح الذي يرتبط بقيادة إبراهيم محمود حامد. فكلا الطرفين يدّعي الشرعية والتنظيمية، ويسعى إلى فرض نفسه كممثل أوحد للحزب الذي حكم السودان لثلاثة عقود. إلا أن الفارق في الأسلوب بين القيادتين واضح؛ هارون يتسم بالديناميكية، والحضور الإعلامي، والمبادرة بالطرح السياسي، فيما يتميز حامد بنهج أكثر تحفظا، يُفضّل العمل خلف الكواليس وتجنب الظهور الصاخب. هذا التمايز يعكس – بشكل أو بآخر – اختلافا في الرهانات السياسية، بين من يسعى إلى إعادة إدماج الحزب في المعادلة القائمة عبر التحالف مع الجيش، ومن يُراهن على مسار أكثر تحفظا قد يُجنّب الحزب خسارة هويته المرجعية على المدى الطويل.
وفي خضم هذا السجال، يلفت اختيار هارون لوكالة “رويترز” لإجراء المقابلة الأنظار؛ إذ قد يُقرأ هذا الخيار كرسالة موجهة للخارج، أو كجزء من رهان على مكانة الوكالة لتعزيز الحضور الإعلامي وتثبيت موقعه القيادي داخل الحزب الذي تمسك الحيرة بتلابيب قواعده. غير أن هذه الخطوة ارتدّت عليه جزئيا، بعدما لعبت الوكالة، التي يُعرف عنها تحاملها على كل ما هو إسلامي، بصياغة التصريحات بشكل مثير ومتحامل. فقد جاءت عناوين التقرير بلغة تحمل إيحاءات تآمرية، مثل استخدامها عبارة:
“Sudan’s Islamists plot post-war comeback by supporting army”
والتي توحي، من خلال كلمة plot، بمساعٍ سرية لانقلاب أو تآمر من خلف الكواليس، ما يتجاوز مجرد تحليل سياسي موضوعي. وقد أشار أحد الخبراء الإعلاميين إلى أن مثل هذا العنوان لا يراعي المعايير المهنية، بل يعكس انحيازا مسبق ا، ويطرح تساؤلات عن مدى إمكانية الوثوق بمنصات إعلامية كهذه في تغطية ملفات شائكة مثل الملف السوداني.
وقد نصح الخبير الاعلامي بأن مثل هذا الانزلاق التحريري يمكن مواجهته باحتياطات مهنية مثل توثيق اللقاءات بالفيديو بالتوازي مع الصحفي، أو اللجوء إلى منصات عربية أكثر موضوعية، أو حتى الاكتفاء بتعميمات مكتوبة مدروسة تُرسل للصحافة، مع تجنب الوقوع في فخاخ المنصات الغربية ذات الأجندات الثابتة والمعلومة.
من زاوية أوسع، تُعيد تصريحات هارون إلى الواجهة مسار التحول الذي بدأ منذ أواخر عهد الإنقاذ، حين بدأت الدولة تأكل التنظيم، وتُقصي مراكز الفكر والرؤية لصالح جهاز تنفيذي أمني صرف. واليوم، يظهر أحمد هارون وكأنه يُكمل هذا المسار، بطرح حزب أشبه بمنظمة دعم سياسي للمؤسسة العسكرية، مستعد لتقديم صكوك الولاء الكامل للجيش، حتى قبل حسم المعركة، شريطة أن يكون له دور ما في مرحلة ما بعد الحرب.
في المقابل، ما زالت الحركة الإسلامية – كمكوّن فكري وتنظيمي – تحتفظ بقدر كبير من التماسك، رغم الضربات الأمنية والسياسية التي تعرّضت لها. وقد يكون افتراقها الجزئي عن المؤتمر الوطني اليوم مدخلا لإعادة تعريف دورها في الساحة السودانية، بعيدا عن الصراع على السلطة، وتركيزا على مشروعها الإصلاحي الأشمل، الذي يربط بين التمكين المجتمعي، والتغيير السياسي، والالتزام بقضايا المستضعفين.
وهنا تكمن المفارقة: بينما يسعى المؤتمر الوطني إلى البقاء عبر التحالف مع السلطة، تختار الحركة الإسلامية – أو بعض تياراتها على الأقل – إعادة التموضع بوصفها قوة فكرية وأخلاقية ذات رؤية مبدئية. وقد أتاح لها هذا التمايز مؤخرا تقديم خطاب أكثر اتساقًا مع الشارع المحافظ، ومع المزاج الشعبي المتعاطف مع الجيش، دون أن تُقدّم تنازلات في المبادئ أو تحوّل نفسها إلى ملحق سياسي لأي طرف.
في ظل هذه التحولات، يبدو أن قواعد المؤتمر الوطني تقف في حالة حيرة واضحة. فالتصريحات الجريئة والصادمة التي أطلقها أحمد هارون، لا تعبّر بالضرورة عن موقف جماعي متفق عليه داخل الحزب، بل تُثير أسئلة عميقة حول المرجعيات والمستقبل. وقد يجد كثير من المنتسبين والكوادر الوسطى أنفسهم في حالة انتظار لما قد يصدر عن الجناح الآخر للقيادة، ممثلا في إبراهيم محمود حامد، الذي ظلّ حتى الآن أكثر تحفظا وأقل انخراطا في النقاشات العلنية. هذا الصمت، وإن فُسّر لدى البعض كنوع من الحكمة، قد لا يستمر طويلا أمام ضغط القواعد الباحثة عن وضوح في الرؤية واتساق في التوجه.
تصريحات أحمد هارون لا يمكن عزلها عن التنافس الداخلي، ولا يمكن أيضا اختزالها في مجرد موقف تكتيكي. إنها تعبير عن لحظة انتقالية دقيقة في مسيرة حزب ظلّ لأعوام طويلة متماهيا مع الدولة والسلطة، ويبدو الآن في طور إعادة التشكل، وسط صراع مركّب بين الذاكرة، والشرعية، والواقع الجديد. كما ينظر إليها كثيرون باعتبارها أحد الارتدادات الزلزالية المتأخرة لسقوط نظام الحكم الذي قاده الحزب في أبريل 2019، حيث لا تزال هزات الفقدان تفرز اضطرابات في الرؤية والقيادة والتموضع، في مشهد لم يستقر بعد على صورة واضحة أو مشروع جامع.
26/07/2025
للاطلاع على مزيد من مقالات الكاتب سلسلة (أمواج ناعمة):
https://shorturl.at/YcqOh