*تفكيك الخرطوم قبل إعادة اعمارها* كتب : العمدة ود البلد
*تفكيك الخرطوم قبل إعادة اعمارها*
كتب : العمدة ود البلد
قبل اسبوع اصدر الفريق ابراهيم جابر قرارا بنقل كل الوزارات والمؤسسات الحكومية من قلب الخرطوم، وكلنا هللنا وفرحنا لهذا القرار من زاوية إعادة تشكيل مركز الخرطوم بصورة حضرية وسياحية جاذبة، ولكن لم ننظر للقرار من زوايا اخرى لتكتمل الصورة عندنا، فالقرار لن يعالج ازمة الخرطوم، فازمتها ليست مركزها او شكلها الحضري او السياحي فقط، بل ازمتها في هيكلها وبنيتها وتركيبتها، ازمتها انها اصبحت تكريس لمركزية الدولة والتي حاربتها كل الانظمة الجادة بعد الاستقلال (عبود والحكم المحلي، نميري والحكم الإقليمي، الانقاذ الحكم الاتحادي)، ازمتها انها اضحت احد معوقات مشروع الانقاذ الاستراتيجي لحل اكبر معضلة للدولة السودانية (توزيع الثروة والسلطة).
فلنبدأ من قرار نقل الوزارات خارج مركز الخرطوم.
فقرار ابراهيم جابر ليس فكرة جديدة، فقد اطلق الفاتح عبدون (معتمد الخرطوم – حينها كان مسمى الولاية في الحكم الإقليمي) مشروع اعادة هيكلة الخرطوم وكان ذلك في عام ١٩٨٨. وكان المشروع يشمل نقل كل المؤسسات الحكومية والخدمية والعسكرية من قلب الخرطوم بما فيها مطار الخرطوم وتفكيك المستشفيات المركزية في المدن الثلاث وتوزيعها على مناطق الكثافة السكانية، واذكر حينها صرح الفاتح عبدون ان الخريطة الهيكلية موجودة ومحفوظه وهي دراسة وضعت عبر بيت خبرة عالمي في عهد مهدي مصطفى الهادي “معتمد الخرطوم الاسبق” والذي شرع في تنفيذها وفق الإمكانيات المحدودة للمعتمدية فبدا في إنشاء الاسواق الطرفية (السوق المركزي الخرطوم وسوق ليبيا امدرمان والإشراف الشعبية الخرطوم وامدرمان) في ذلك الوقت كانت مواقع هذه الاسواق في اطراف مدينتي الخرطوم وامدرمان قبل تمدد المدينتين لتلتهم اربع اخماس خارطة ولاية الخرطوم. ولكي تتضح هذه الصورة فإن معتمدية الخرطوم -الولاية الحالية- كانت لها ٦ مجالس ثلاث مجالس بلديات وثلاثة مجالس ريف اما الان فقد اصبحت سبعة مجالس لسبعة محليات كلها بدون توصيف دقيق للحالة (بلدية او ريفية) لان المشكلة ان البلديات “الحضر” التهمت كل الارياف رغم ان الخدمات في مساحة مقدرة منها خدمات ريف (شفت المشكلة تعقدت كيف).
على العموم تعطل مشروع اعادة الهيكلة لعدم الاستقرار السياسي وقلة الموارد وضعف الارادة السياسية، ولكنه ظل حاضرا في ذهنية كل المعتمدين والولاه الذين مروا على الخرطوم لان المشروع يمثل قشة الغريق في بحر مشاكل الولاية ذات التركيبة المعقدة التي نتجت من الاخطاء التخطيطة المتراكمة والتي يمتد تاريخها منذ الانشاء الاول “عثمان بك” في الاستعمار المصري التركي الاول.
فعندما توفر الاستقرار السياسي وبالتالي الإرادة وفوضت سلطات التصرف في الاراضي والتي كانت مركزية تتبع لمجلس الوزراء ولها وزير مختص عندما فوضت كل السلطات لمعتمدية الخرطوم كاملة غير منقوصة وبذلك تمت معالجة نقص الموارد “لان الاراضي تعتبر مورد ضخم” وذلك في عهد اللواء محمد عثمان سعيد والذي اوكل المهمة لخبير وعالم ومتخصص في المجال “د شرف الدين بانقا” فبدا في تنفيذ مشروع اعادة الهيكلة
فتمددت الخرطوم وتحولت اريافها إلى مدن وتوسعت المساحات الحضرية لتلتهم اربعة اخماس الولاية، فإذا نظرنا إلى تقييم التنفيذ نجد ان هناك إنجاز كبير قد تم (انشاء خمسة كباري جديدة والسادس تحت الانشاء، اخلاء مركز الخرطوم من الكثافة السكانية المقيمة إذ اصبحت الكثافة طارئة -مواقف مواصلات ومكاتب مؤسسات خاصة وعامة- الا ان تفكيك المستشفيات لازمه التاخير نتيجة صراعات بين مراكز القوى داخل الحزب الحاكم والسلطة التنفيذية، كما اعاقت الإرادة السياسية ذاتها بقية إفراغ مركز الخرطوم من المؤسسات الحكومية والعسكرية.
ولكن بنظرة تشخيصية عميقة رغم الانجاز الذي تم (استعرضه بصورة تفصيلية وبالارقام “عبد الرحيم محمد حسين” والي الخرطوم في ٢٠١٥) يبقى السؤال هل تم علاج ازمة الخرطوم كعاصمة للدولة؟ .. الإجابة تحتاج لدراسة شاملة اعمق ولكن الظاهر امامنا لم يتم علاج الازمة بل تعمقت وانجبت ازمات متوالدة حتى اصبحت كالسرطان… ومن نظرة سريعة يمكن القول:
١/ إن المشروع اعتمد كمرجعية على دراسة قديمة ١٩٨١ لم تستوعب التجديدات في الخطط المتغيرات التي حدثت والتي نجملها في الآتي:
* حركت النزوح الواسعة من إقليمي دارفور وكردفان نتيجة الجفاف والتصحر ١٩٨٣ (حركة انتقال سكاني من بادية لحضر).
* حركة النزوح المستمر من مدن السودان المختلفة خلال الفترة من ١٩٨٥ وحتى ١٩٩٨ نتيجة لانهيار الخدمات فيها مع فرص التشجيع التي اتيحت في الخرطوم بالتوسع في الخطط الإسكانية وانشاء مدن جديدة داخل ولاية الخرطوم (انتقال سكاني من حضر إلى حضر).
* انتقال حركة الاستثمار العقاري من مدن الاخرى إلى ولاية الخرطوم (تنامي الطلب في السوق العقاري).
* انتقال راس المال الوطني للاستثمار العقاري وشهدت الفترة من ٢٠٠٠ وحتى ٢٠١٦ اكبر انتقال لروؤس الاموال من قطاعات اخرى الى القطاع العقاري والخرطوم وحدها استوعبت ما يزيد على ٩٠٪ من هذا التحول الراسمالي حتي ٢٠١١ مما ترتب عليه ارتفاع قيمة العقار بصورة خيالية حتى اضحت قطعة الارض في الخرطوم اغلى من فيلا في العاصمة البريطانية لندن، ثم بدات تتراجع نسب استحواذ الخرطوم على الاستثمار العقاري نتيجة للمتغيرات الاقتصادية لبعض المدن بتحولها إلى مناطق جذب استثماري ادخلها كمنافس لمدن الخرطوم مثل (عطبرة، دنقلا، الدبة، بربر ، ابو حمد، نيالا، الضعين، الفاشر).
٢/ المشروع وتجديداته المتعددة زمنيا لم يستوعب الرؤية الشاملة للدولة السودانية بابعادها الاجتماعية والاقتصادية والامنية والسياسية إذ ظلت الرؤية في كل المراحل والحقب التي مرت عليه رؤية قاصرة على مشكلات الولاية (الموارد، السكن، الخدمات بانواعها).
٣/ المشروع افرز مدينة متسعة جغرافيا مع كثافة سكانية اقل من ان تتناسب مع التوسع الجغرافي (مساحة الخرطوم في ٢٠١١ تساوي ثلاثة اضعاف مساحة القاهرة الكبرى بينما عدد سكان القاهرة الكبري يساوي ثلاث اضعاف عدد سكان الخرطوم)، الامر الذي يؤدي إلى النتائج التالية:
* ارتفاع تكلفة البنية التحتية (الطرق، الصرف الصحي، مصارف الامطار، بنيات وسائل النقل الجماعي الحديث).
* ارتفاع تكلفة الخدمات الاساسية (الكهرباء، المياه، الاتصالات، الصحة، التعليم، الامن).
* ارتفاع تكلفة تشغيل الخدمات بما فيها التكلفة الإدارية.
* ضعف المساهمة المالية للسكان في تكلفة التشغيل لعدم تناسب الكثافة السكانية مع اتساع الرقعة الجغرافية الامر الذي يؤدي اما لرفع قيمة رسوم الخدمات لتقديمها بجودة عالية او تقديم خدمات اقل جودة والذي يبرز في صور شائهة لعاصمة إدارية وقومية كتذبذب الإمداد المائي والكهربائي وتراكم النفايات وغيرها من التشوهات.
٤/ المشروع ساهم بنسبة عالية في الهشاشة الامنية إذ اثر الاتساع الجغرافي إلى تقاصر الظل الامني فنشأت مناطق مظلمة في الاطراف واخرى معتمة داخل مراكز المدن تفشت فيها الجريمة بكل انواعها (تجارة المخدرات والخمور، الجريمة المنظمة “عصابات النقرز”، السرقات وخلافها).
٥/ المشروع ساهم بصورة كبيرة في الهشاشة الاجتماعية التي تسبب فيها عدم تطبيق اللوائح الإدارية المنظمة لعمليات البناء والعمران نسبة لتقاصر الظل الإداري فنشأت بؤر اجتماعية داخل الاحياء السكنية بمختلف مستوياتها “العشوائيات” فخلقت عدم توازن اجتماعي ترتب عليه وجود مقدر لمجتمعات هشة نامية بمتواليات هندسية، هذه المجتمعات يسهل اختراقها من الجهات المعادية وساهمت بصورة كبيرة في الهشاشة الامنية والسياسية واوضح مثال لذلك ثورة ديسمبر المزعومة وحرب ١٥ ابريل.
كيف اضحت ازمة الخرطوم احد معوقات مشروع الانقاذ الاستراتيجي لحل اكبر معضلة للدولة السودانية (توزيع الثروة والسلطة) عبر الحكم الاتحادي؟.
صحيح اهتمت الانقاذ بخدمات الهامش فانجزت مشروع الكهرباء بعد بناء سد مروي فدخلت الكهرباء مناطق واسعة جدا، كما انجزت الطرق والتعليم بمستوياته المختلفة وحصاد المياه وغيرها، وفي جعبتها مشاريع تنهي معضلة الهامش تماما لم ترى النور لسقوطها في ابريل ٢٠١٩.
قد يسال سائل: ما هذا التناقض تتحدث عن إنجاز الانقاذ في إنهاء معضلة الهامش ببسط التنمية في الولايات الطرفية، ولو اتيحت لها الفرصة لإكمال مشاريعها لاصبح الهامش والمركز سيان، وفي ذات الوقت تقول ازمة الخرطوم اضحت اكبر معوق للمشروع الاستراتيجي الذي به تحل معضلة الهامش والمركز؟..
فالنزيل التناقض:
* الخرطوم استوعبت ربع سكان السودان.
* باستيعابها لربع سكان السودان تركزت الموارد المالية في الخرطوم.
* إذن الخرطوم افرغت السودان من الموارد المالية والبشرية.
* ليست الكهرباء والطرق هي من ينتج ولكنها تساعد الإنتاج …
إذن كيف يتم تنمية موارد الولايات طالما تركزت الموارد البشرية والمالية في الخرطوم … ولذلك فإن ما أنجزته الانقاذ في الحكم الاتحادية وما صرفته من اموال في البنيات الاساسية في الولايات سيضيع هباءا منثورا طالما حبست الموارد البشرية في الخرطوم.
نضرب مثل بسيط عشان نقرب الصورة:
اذا تخرج شاب من جامعة الضعين في كلية الإنتاج الحيواني إلى اين سيتجه للتوظيف؟ سيتجه إلى الخرطوم ليعمل في احد مزارعها حيث الاجر العالي. لماذا لا يعمل في ولاية شرق دارفور التي تعتبر اهم مراكز القطيع السوداني. ببساطة لان حجم الاستثمار في ولاية الخرطوم اكبر من حجم الاستثمار في ولاية شرق دارفور وبالتالي تعتبر الخرطوم الاوسع في الفرص لتحقيق رغبات خريج الإنتاج الحيواني.
شفت كيف يعني ما انفقته الانقاذ في إنشاء جامعة الضعين ضاع هباءا منثورا ….
وقس على ذلك بقية الولايات يعني خريج الآثار كريمة حيشتغل وين في كريمة ولا في الخرطوم.
*الخلاصة*:
قبل التفكير في إعادة الإعمار على القائمين بالامر ان يشخصوا علل مدن الخرطوم من زاوية رؤية شاملة تحت إطار الدولة السودانية ومن ثم يشرعوا في إعادة اعمارها.