منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

*الفرق بين الحالة الليبية والحالة السودانية: قراءة استراتيجية* بقلم: أمية يوسف حسن أبوفداية

0

*الفرق بين الحالة الليبية والحالة السودانية: قراءة استراتيجية*

 

بقلم: أمية يوسف حسن أبوفداية

مرّت منطقتا ليبيا والسودان بتحولات عاصفة بعد اندلاع ما سُمّي بـ”الربيع العربي”، لكن تطور الأوضاع في كلا البلدين أخذ مسارات مختلفة وإن اشتركت في بعض المظاهر السطحية. ورغم تشابهات نسبية في صراع السلطة وانتشار السلاح وظهور قوى خارج سلطة الدولة، إلا أن هناك فروقات جوهرية تميز الحالة الليبية عن الحالة السودانية، لا سيما في طبيعة الأطراف المتنازعة، والخلفية المؤسسية، والدعم الإقليمي والدولي، وصولًا إلى شرعية السيطرة ونظرة المجتمعات المحلية لها.

أولًا: الإرث المؤسسي بعد سقوط النظام

ليبيا ورثت بعد سقوط نظام معمر القذافي في 2011 مشهدًا معقدًا من الانقسامات. النظام الليبي، رغم طغيانه، لم يقم على مؤسسة عسكرية وطنية موحدة بالمعنى الكامل، بل اعتمد على فرق أمنية وكتائب موالية للعائلة الحاكمة، وأغلبها يقودها أبناء القذافي. لذلك، عند انهيار الدولة، لم يكن هناك “جيش وطني” قادر على ملء الفراغ أو حفظ التماسك، ما أتاح المجال لنشوء عشرات الكتائب والمليشيات التي تمركزت في مدن ومناطق مختلفة، ولكل منها أجندتها الخاصة وتحالفاتها.

أما السودان، فرغم أزماته المتكررة، احتفظ بجيش وطني له تاريخه الطويل وخبرته الممتدة منذ عهد الاستعمار البريطاني. ورغم أنه تأثر بالسياسات الانقلابية المتكررة، إلا أنه ظل مؤسسة مركزية في الدولة السودانية. وهذا ما يميز الحالة السودانية: فالصراع الحالي يدور بين جيش منظم يقوده الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوة شبه عسكرية تمثلت في قوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو “حميدتي”.

ثانيًا: القادة العسكريون.. بين الانضباط والتمرد

الفارق الرئيسي الثاني يتجلى في طبيعة القادة العسكريين. في ليبيا، برز اسم المشير خليفة حفتر كقائد عسكري منظم، ذو خلفية عسكرية كلاسيكية، وهو خريج الكلية العسكرية الليبية وشارك في حروب إقليمية عديدة، من بينها الحرب الليبية-التشادية. حفتر يمثل النموذج التقليدي للقائد العسكري، وقد حاول توحيد الكتائب المسلحة تحت ما يُعرف بـ”الجيش الوطني الليبي” في الشرق.

على الجانب الآخر، فإن حميدتي لا يملك خلفية عسكرية نظامية، بل صعد من خلال المليشيات القبلية، وارتبط اسمه بمجازر دارفور في أوائل الألفية، حينما كان قائدًا في الجنجويد. وقد تحوّل لاحقًا إلى زعيم قوة “الدعم السريع”، والتي تم دمجها شكليًا في المنظومة الأمنية السودانية، لكنها ظلت قوة مستقلة فعليًا تدين بالولاء له فقط.

ثالثًا: الفروق في التسليح والدعم الخارجي

قوات حفتر رغم كونها متماسكة تنظيميًا نسبيًا وتستمد شرعيتها من التراتبية العسكرية، إلا أنها عانت في البداية من نقص في العتاد والدعم، لكنها لاحقًا حصلت على دعم مباشر من دول إقليمية مثل مصر والإمارات وروسيا، وفرضت سيطرتها على الشرق الليبي بما فيه الهلال النفطي.

في المقابل، قوات الدعم السريع في السودان وُلدت مدججة بالسلاح، وتم تمويلها بعائدات الذهب من المناجم التي تسيطر عليها، خاصة في دارفور وجنوب كردفان. كما أقامت علاقات متشابكة مع أطراف دولية وإقليمية باستثناء مصر وإريتريا، واستفادت من مشاركتها في التحالف العربي باليمن لتعزيز علاقاتها وتسليحها.

اللافت أن هذا الدعم لم يكن مشروطًا بتطوير مؤسسات الدولة أو فرض الاستقرار، بل غالبًا ما ساهم في تعزيز استقلالية قوات الدعم السريع عن الدولة، مما خلق وضعًا هشًا ومعقدًا.

رابعًا: الشرعية الاجتماعية والسيطرة على الأرض

في الحالة الليبية، قوات حفتر تتمتع بقبول شعبي نسبي في الشرق الليبي، خصوصًا بعد أن أعادت شيئًا من الاستقرار إلى مدن مثل بنغازي ودرنة، رغم الانتقادات الدولية لسجلها في مجال حقوق الإنسان.

أما في السودان، فالوضع مختلف تمامًا. فرغم السيطرة الميدانية لقوات الدعم السريع على مساحات واسعة من دارفور (تُقدر بنحو 80% من الإقليم)، إلا أن هذه السيطرة لا تستند إلى شرعية اجتماعية أو سياسية. بل إن الدعم السريع تُعتبر مرفوضة على نطاق واسع، حتى داخل دارفور نفسها، نتيجة لانتهاكاتها المتكررة بحق السكان، من قتل ونهب وتشريد وإغتصاب.

وهنا يكمن الفارق الحاسم: أي مشروع سياسي أو عسكري لا يمكن أن ينجح على المدى الطويل إذا لم يحظَ بقبول اجتماعي. وحتى لو تمكن حميدتي وقواته من السيطرة العسكرية على الإقليم أو أجزاء من السودان، فإن هذه السيطرة ستبقى هشة ومرفوضة، ما يعني استحالة تحوله إلى حاكم فعلي مقبول لدى السكان.

خامسًا: مستقبل الاستقرار وإمكانيات الحسم

رغم تعقيد الحالة الليبية، فإن وجود محور سياسي–عسكري موحد نسبيًا في الشرق أتاح نوعًا من الاستقرار النسبي هناك. كما أن حفتر يسعى لتقديم نفسه كطرف في أي تسوية سياسية وطنية، ما يجعله جزءًا من المعادلة وليس خارجها.

في السودان، الوضع مختلف. فقوات الدعم السريع لا تملك رؤية سياسية واضحة، ولا تسعى لبناء دولة، بل تحاول فرض الأمر الواقع بقوة السلاح والذهب والعلاقات العابرة للحدود. ولكن، ومع ازدياد الكراهية الشعبية لها، وخاصة بعد مجازر الخرطوم والجزيرة ودارفور، فإن فرصها في الحكم أو كسب الشرعية الوطنية تقترب من الصفر.

خاتمة: رؤى استراتيجية للمستقبل

الفرق الجوهري بين الحالتين لا يقتصر فقط على الأشخاص أو التنظيمات، بل على المعمار المؤسسي والشرعية الاجتماعية والقدرة على بناء دولة. ليبيا، رغم فوضاها، لا تزال تحتوي على نخب سياسية وعسكرية تحاول فرض إطار للدولة، ولو بشكل جزئي. في حين أن السودان يواجه خطر التفكك التام بسبب صعود ميليشياوية بلا ضوابط، تفتقد لأي مشروع وطني.

على المجتمعين الإقليمي والدولي أن يعيا أن دعم المليشيات، تحت أي مسمى، لا يصنع استقرارًا، بل يؤسس لفوضى طويلة الأمد يمكن تمتد الى كامل الاقليم . ويجب أن يُعاد النظر في كل الأطر الداعمة لقوى لا تحترم الشرعية ولا تطمح إلى بناء دولة تقوم على المواطنة والقانون.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.