زاوية خاصة نايلة علي محمد الخليفة *الحرب تعيد رسم خارطة الخدمات في السودان*
زاوية خاصة
نايلة علي محمد الخليفة
*الحرب تعيد رسم خارطة الخدمات في السودان*

مثلما أن للحرب فاتورتها الباهظة التي دفع فيها السودانيون ، دمًا ونزوحًا وتمزقًا في كل جوانب حياتهم ، فإنها رغم قسوتها ، أعادت رسم السودان من جديد ، وجعلت الخدمات تتوسّع في الأطراف قبل المركز ، في مفارقة لم تكن لتحدث لولا هذا الخراب الكبير.
فعلى امتداد الولايات التي زرتها قبل الحرب وبعدها ، بدا التحوّل واضحًا في شكل العمران وتطوّر الخدمات ، خاصة في القطاع الصحي ، ما كان محصورًا في الخرطوم لسنوات بات اليوم متاحًا في أكثر من ولاية ، توطين التخصصات لم يعد مجرد شعار ، بل أصبح واقعًا يلمسه المواطن في مستشفيات ولايته ، جرعات الكيماوي لمرضى السرطان ، أجهزة الرنين المغنطيسي ، غسيل الكلى ، وعدد من التخصصات الدقيقة التي كانت تُشدّ لها الرحال إلى العاصمة ، باتت اليوم جزءًا من الخدمة الصحية الولائية.
ولعل المفارقة الأكثر دلالة هي تغيّر نظرة الأطباء أنفسهم ، حدثني أحدهم قائلًا ، الحرب رغم مراراتها غيّرت فينا أشياء كثيرة ، غيّرت نظرتنا للولايات والمواطنين ، أوضح أن الطبيب الذي كان يرفض التوزيع الولائي وكأنه حكم بالإبعاد ، أصبح اليوم يكتشف معنى الخدمة الحقيقية حين يقترب من الناس ، وضرب مثالًا بطبيب مرموق ، كان لقاءه في الخرطوم يتطلب حجزًا قبل شهر ، فإذا به الآن يعمل في ولاية خارج المركز ، يفتح عيادته الخاصة ، ويتعاقد مع المستشفيات المحلية ، ويقدّم خدماته لذلك المواطن نفسه الذي كان يأتيه من آخر الدنيا طلبًا للعلاج.
لم يقتصر التحوّل على الصحة وحدها ، قطاع الصناعات الصغيرة انتعش بدوره في الولايات ، الحرب دفعت الناس إلى الاعتماد على ولاياتهم ، فظهرت ورش ومصانع ومبادرات لم تكن لتولد في الظروف العادية.
عادت الخرطوم إلى كونها القلب النابض ، نعم ، لكنها لم تعد وحدها مركز الحياة والخدمات ، الحرب على قسوتها ، أعادت توزيع الخارطة ، جعلت الخدمات تتحرك من الأطراف لا من المركز فقط ، وكأنها أرادت أن تقول للسودان ، إن النهضة لا تبدأ من العاصمة ، بل من حيث يقف المواطن البسيط ، من حيث يقف محمد أحمد وآدم واوشيك كلٌ في ولايته ، في هامشه ، في مكانه الذي يستحق أن يعيش فيه بكرامة وخدمة عادلة ، تصل إليه في حيزه الجغرافي لا يطوي لها الاميال ، وهذا ما حققته له الحرب رغم مرارتها…لنا عودة.
