*رؤية للنهوض الاقتصادي ..كيف نؤهل بلادنا لبناء شراكات ناجحة* السفير/ رشاد فراج الطيب
*رؤية للنهوض الاقتصادي ..كيف نؤهل بلادنا لبناء شراكات ناجحة*
السفير/ رشاد فراج الطيب

يمر السودان بمرحلة حاسمة تتطلب إعادة بناء شاملة وعميقة في كيانه الاقتصادي والإداري والمؤسسي ، حتى يصبح بلداً قادراً على الدخول في شراكات إقليمية ودولية متكافئة ، وقادراً على الوفاء بالتزاماته تجاه الاتفاقيات والمنظومات الاقتصادية التي يسعى للانضمام إليها.
فالمشكلة ليست في نقص الموارد ، بل في غياب الجهوزية ، وليست في ضعف القدرات الطبيعية ، بل في ضعف البيئة التي تسمح لهذه القدرات أن تعمل وتنتج وتنافس .
إن إصلاح بيئة ومناخ الاستثمار يشكل حجر الأساس لأي نهضة اقتصادية محتملة .
فالاستثمار والانتاج لا يزدهران إلا في مناخ تتوافر فيه قوانين واضحة ، وإجراءات شفافة وتسهيلات وامتيازات مشجعة ، وعدالة لا تتأثر بالمحسوبية ، ومؤسسات قادرة على حماية المنتج والمستثمر المحلي قبل الأجنبي .
كما يحتاج السودان إلى تفكيك منظومة الاحتكارات التي خنقت التجارة لسنوات ، وإزالة الامتيازات الحصرية التي حولت الوارد والصادر إلى نشاط مغلق في وجه رواد الأعمال والقطاع الخاص المنتج .
فالتجارة الحرة ليست شعاراً ، بل بنية كاملة تبدأ من تحرير الأسواق وتنتهي بتمكين المنافسة العادلة .
ولا يمكن الحديث عن اقتصاد منتج في ظل بيئة تشغيل طاردة .
فحل مشاكل الطاقة ، على مستوى التوليد والإمداد والتوزيع ، يمثل شرطاً لا يمكن تجاوزه .
كما أن تحديث الموانئ وزيادة سعتها الاستيعابية وقدرتها التشغيلية ، وتطوير أنظمة التخزين والتبريد والنقل والمناطق الحرة ، يشكل منظومة مترابطة يجب الاستثمار فيها دفعة واحدة لا بصورة جزئية .
فالدول التي أصبحت محاور للتجارة العالمية لم تنجح بالمصادفة ، بل أقامت بنية لوجستية متدرجة ومدروسة سمحت لها بأن تتحول إلى نقاط جذب اقتصادي .
وإزالة عوائق الإنتاج أمام رواد الأعمال تمثل محوراً لا يقل أهمية .
فالسودان بلد شاب ، وغني بقدرات بشرية متعلمة وفاعلة ، لكنها مكبلة ببيروقراطية معقدة ، ونظم تمويلية ضعيفة ، ومخاطر تشغيلية مرتفعة .
تحرير طاقات الشباب يتطلب سياسات داعمة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة ، وتسهيلات تمويلية حقيقية ، وحماية من الممارسات الاحتكارية التي تهدد أي مبادرة ناشئة قبل أن ترى الضوء .
يمتلك السودان ما يجعله لاعباً مركزياً في ملف الأمن الغذائي الإقليمي والدولي ، لكنه ما زال بعيداً عن توظيف هذه الميزة رغم أن السودان قد دفع بمشروع متكامل للأمن الغذائي العربي للجامعة العربية وتمت اجازته وتم انجاز دراسات الجدوي عن طريق بيت خبرة ألمانية كما تم توجيه المنظمات والصناديق العربية لتمويله إلا ان ذلك لم يحدث ولم ير المشروع النور .
فبلد بهذا الاتساع وهذه الخصوبة وتنوع المناخات يمكنه أن يكون مركزاً لإنتاج وتصدير الحبوب والزيوت واللحوم ، لكنه يحتاج إلى بنية زراعية وصناعية حديثة تعتمد علي الحزم التقنية و التكنولوجيا المتقدمة ، وأنظمة ري وإدارة مياه فاعلة ، وتوظيف التكنولوجيا الزراعية ، وإدخال القيمة المضافة بدلاً من تصدير المنتجات الخام .
وإذا تم هذا ، يصبح السودان ليس مجرد مُنتِج ، بل شريكاً يمكن أن يسهم في حل واحدة من أكبر مشكلات العالم .
ورغم سعي السودان الدائم نحو التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف ، إلا أنه غالباً ما يدخل هذه الشراكات وهو غير مؤهل بما يكفي ، فيخسر الكثير من الفرص ويعجز عن الالتزام بمتطلبات الشركاء .
إن العالم لم يعد يقيم الشراكات على أساس الوعود أو الإمكانات النظرية ، بل على أساس الجاهزية ، والاستقرار ، ووضوح الرؤية ، والقدرة على تحويل الاتفاقيات إلى مشروعات ونتائج .
لذلك يحتاج السودان إلى هندسة جديدة لسياسات وقوانين الدولة تجاه الاقتصاد والتجارة ، وإعادة تعريف دور القطاع الخاص ، وتوسيع دائرة المشاركة الاقتصادية ، وتطوير مؤسسات فنية قادرة على التفاوض وحماية المصالح الوطنية .
إن التفكير المبدع وخارج الصندوق لم يعد ترفاً ، بل ضرورة .
فالسودان لا يحتاج فقط إلى إصلاحات تقليدية ، بل يحتاج إلى رؤية جديدة ومدرسة مختلفة في إدارة موارده الهائلة ، من مشروعات زراعية وصناعية كبرى بشراكات استراتيجية ، إلى مناطق اقتصادية متخصصة ، إلى استغلال موارده المعدنية الهائلة بطريقة رشيدة ، إلى إعادة هيكلة الجهاز المصرفي واصلاح السياسات المالية والنقدية ، ليكون قادراً على تمويل التنمية ، وإقامة شبكات تجارة إقليمية تعتمد على القرب الجغرافي والمزايا النسبية .
السودان بلد كبير وغني ، ليس فقط بطبيعته وموارده ، بل بشعبه العظيم الذي أثبت في كل المحن أن القدرة على البناء والنهضة كامنة فيه مهما تعاقبت الأزمات .
وما يحتاجه اليوم هو مشروع وطني واضح ، يربط الإصلاح بالنهضة ، والموارد بالفرص ، والطموحات بالخطط الواقعية .
فإذا توفرت الإرادة السياسية ، وأُعيد بناء المؤسسات وفق معايير الكفاءة ، واستعيدت الثقة بين المجتمع والدولة ، فإن السودان قادر لا على أن يكون شريكاً ناجحاً فحسب ، بل على أن يكون قوة اقتصادية إقليمية تُحترم وتُحسب لها حساب ، ويكون بذلك قد وضع نفسه في المكانة التي يستحقها بين الأمم.
