منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

*من حضرموت إلى السودان وعبر البحر الأحمر .. إسرائيل تتمدد*  السفير/ رشاد فراج الطيب

0

*من حضرموت إلى السودان وعبر البحر الأحمر .. إسرائيل تتمدد*

 

السفير/ رشاد فراج الطيب

 

باحث في التحولات الجيوسياسية

 

لم تأتِ الإشادة الإسرائيلية العلنية بسيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة إماراتيًا على وادي حضرموت في توقيت عابر ، ولا بلغة تحليل عسكري محايدة ، بل شكّلت في مضمونها وتوقيتها كشفًا صريحًا عن بنية مشروع إقليمي متكامل يتجاوز اليمن وحدوده ، ويمتد عميقًا في البحر الأحمر والقرن الأفريقي والسودان ، ضمن رؤية أمنية إسرائيلية يجري تنفيذها بأدوات إقليمية ووكلاء محليين .

فالتصريحات التي أطلقها الكاتب والخبير الجيوسياسي الإسرائيلي آفي أفيدان على منصة “إكس” ، والتي وصف فيها ما جرى في حضرموت بأنه “عبقرية إماراتية” و“نجاح استراتيجي بالغ الذكاء” ، لم تكن مجرد رأي شخصي أو انطباع إعلامي ، بل إعلان سياسي صادر من تل أبيب عن هوية المشروع الذي تقف خلفه هذه التحركات ، وعن الأهداف التي تخدمها على المدى المتوسط والبعيد .

وحين يتحدث خبير إسرائيلي بارز عن “الاستيلاء البارع” على سيئون ، والسيطرة على القصر الرئاسي ومطار سيئون الدولي والمرافق الحيوية ، ووضع أكبر احتياطيات اليمن النفطية تحت سيطرة المجلس الانتقالي ، فهو لا يصف معركة محلية ، بل يقرّ بإعادة توزيع السيطرة على الموارد السيادية اليمنية خارج أي إطار وطني جامع ، وبما يخدم توازنات إقليمية لا علاقة لها بمصالح اليمنيين .

الأخطر من ذلك هو كشف أفيدان الصريح لما سماه “استراتيجية الكماشة” ، وهي توصيف بالغ الدلالة ، لأنه يقرّ بوجود تخطيط إماراتي-إسرائيلي مشترك متعدد الحلقات ، يبدأ من جزيرة سقطرى التي تحولت – بحسب اعترافه – إلى منصة استخباراتية متقدمة تضم مراكز مشتركة ، ويمتد عبر عدن ليصل إلى حضرموت ، في إطار طوق جغرافي- أمني يستهدف خنق أي قوة يمنية مستقلة يمكن أن تمتلك هامش قرار سيادي أو تؤثر في معادلات الملاحة والأمن في البحر الأحمر وخليج عدن .

وفي هذا السياق ، لا يمكن تجاهل حديث الخبير الإسرائيلي الصريح عن أن إسرائيل “تسيطر على السماء والبحر” وتنفذ غارات ضد الحوثيين منذ عام 2023 ، وهو إقرار مباشر بدور عسكري إسرائيلي في واحدة من أخطر مناطق الملاحة الدولية ، موضحا أن ذلك أدي الي تحول القوات البحرية مع حلفائها في البحر الأحمر الي حاجز منيع ضد الأسلحة الايرانية .

كما لا يمكن التعامل مع حديثه عن حماية 30% من الشحن العالمي بوصفه توصيفًا تقنيًا بريئًا ، بل باعتباره تعبيرًا عن رؤية إسرائيلية قديمة تسعى إلى تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة أمنية منزوعة المفاجآت ، تُدار توازناتها من خارج الإقليم .

ووصفه للعاصمة صنعاء بأنها “محاصرة” ومحرومة من الوقود والأسلحة والإيرادات ، وأنها أشبه بـ“فرمة لحم محسوبة” ، يكشف منطق الحرب الاقتصادية الممنهجة ، التي لا تستهدف حسمًا عسكريًا بقدر ما تستهدف إنهاك القرار السياسي وتجفيف الموارد ، ومنع تشكّل دولة قادرة على فرض سيادتها أو إعادة تعريف قواعد الاشتباك الإقليمي .

أما البعد السياسي في تحليل أفيدان ، فيحمل دلالات لا تقل خطورة ، حين يشيد بما يسميه “حصنًا جنوبيًا علمانيًا” تم إنشاؤه عبر تمويل وتسليح نحو 120 ألف مقاتل من قوات المجلس الانتقالي ، ويُقدَّم صراحة كخط دفاع متقدم لحماية كيان الاحتلال .

ويأتي استدعاء تعهد رئيس المجلس الانتقالي عيدروس الزبيدي ، خلال سبتمبر الماضي ، بانضمام “جنوب اليمن” إلى الاتفاقات الإبراهيمية ، ليضع النقاط على الحروف .

نحن لسنا أمام مشروع محلي ، بل أمام إدماج وظيفي لكيان سياسي وعسكري في منظومة الأمن الإسرائيلية الإقليمية.

وتتضاعف خطورة هذه التصريحات حين تُقرأ في سياقها الزمني ، إذ جاءت مباشرة عقب الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في طهران في 9 ديسمبر ، وضم السعودية وإيران والصين ، وصدر عنه بيان واضح يؤكد أن الحل في اليمن سياسي شامل لا عسكري ، ويستند إلى احترام سيادة الدولة اليمنية ووحدة قرارها .

ذلك البيان مثّل لحظة مفصلية في مسار الأزمة اليمنية ، لأنه أعاد الاعتبار لمنطق التسوية ، ولأنه صدر برعاية قوى إقليمية ودولية قادرة – نظريًا وعمليًا – على فرض مسار تهدئة طويل الأمد .

ومن هنا ، يصبح التزامن بين هذا البيان وبين التسارع الإماراتي لفرض وقائع ميدانية جديدة في حضرموت مؤشرًا على محاولة مدروسة لقطع الطريق أمام أي تسوية سياسية قد تعيد توحيد القرار اليمني ، وتنهي مرحلة الوكلاء المحليين التي شكّلت ركيزة أساسية للنفوذ الإماراتي والإسرائيلي معًا .

فالتحرك الإماراتي في حضرموت لا يمكن فهمه بوصفه خلافًا يمنيًا – يمنيًا أو صراع نفوذ داخلي ، بل باعتباره جزءًا من استراتيجية أوسع تتقاطع فيها المصالح الإماراتية مع الرؤية الأمنية الإسرائيلية في البحر الأحمر .

فإسرائيل لا تخشى يمنًا ضعيفًا أو ممزقًا ، بل تخشى يمنًا مستقرًا وموحدًا ، لأن الدولة اليمنية الجامعة ، مهما كانت توجهاتها ، تمتلك موقعًا جغرافيًا لا يمكن تحييده ، وتأثيرًا حتميًا على أمن البحر الأحمر .

ومن هنا ، يصبح تعطيل السلام في اليمن ضرورة استراتيجية لا خيارًا تكتيكيًا عابرًا .

ولا تتوقف آثار هذا المشروع عند حدود اليمن .

فامتداده عبر البحر الأحمر ينعكس مباشرة على السودان ، الذي يشهد تحديات عسكرية أمنية وسياسية خطيرة .

فالسودان ، بسواحله الطويلة وموقعه الحاكم على الضفة الغربية للبحر الأحمر ، يمثل خاصرة رخوة في الحسابات الإسرائيلية ، وأي فوضى أو تعدد وكلاء فيه يخدم هدف تفريغ هذه الضفة من أي دولة وطنية قوية قادرة على حماية موانئها وقرارها السيادي .

ويمتد هذا المنطق كذلك إلى القرن الأفريقي ، حيث تتقاطع القواعد العسكرية ، والموانئ المُدارة من الخارج ، وشبكات النفوذ الاستخباراتي ، في فضاء واحد تحوّل إلى ساحة تنافس دولي محموم ، تُدار فيه الأزمات بمنطق الاحتواء والتجزئة لا بمنطق الاستقرار الحقيقي .

إن الخطر الحقيقي في هذا المشهد لا يكمن فقط في التحركات العسكرية ، بل في الفلسفة التي تحكمها ؛ فلسفة ترى في تعطيل السلام إنجازًا ، وفي إطالة أمد الصراع ضمانة للاستقرار الإسرائيلي ، وفي تفكيك الدول العربية شرطًا لإعادة هندسة الإقليم بما يخدم إسرائيل أولًا .

ومن هنا ، فإن ما يجري من حضرموت إلى السودان ، وعبر البحر الأحمر ، ليس أحداثًا منفصلة ، بل حلقات مترابطة في مشروع واحد ، تُدار فيه الحروب بالوكالة ، وتُجزّأ فيه الدول تحت لافتة “الاستقرار” ، ويُعاد تعريف الأمن القومي بعيدًا عن مصالح شعوب المنطقة .

وفي لحظة إقليمية تتكاثر فيها المبادرات السياسية ، يصبح السؤال الجوهري ليس من يحقق تقدمًا ميدانيًا ، بل من يعمل على إنجاح السلام، ومن يخشاه ، ولماذا …

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.