د. ياسر محجوب الحسين يكتب :
*السودان وتشاد .. تأثير متبادل لا فكاك منه*
أمواج ناعمة
يشترك كل من السودان وتشاد في كثير من الظروف الجيوسياسية والطبيعية، إلى جانب تداخل اجتماعي معقد فهناك 13 قبيلة مشتركة على جانبي الحدود، والتي تعتبر الأطول بعد حدود السودان مع دولة جنوب السودان غير أن الأولى سهلية ودون عوائق طبيعية تذكر، وتمتد لنحو 1403 كيلومترات. وعبر تاريخ البلدين كانت العلاقات توثق عراها العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وقد شهدت الأجزاء الشمالية في كلا البلدين قيام دول إسلامية تأثرت تأثرا قويا بهجرات القبائل العربية التي انداحت من الشمال والشرق ووجدت في أراضي السودان وتشاد امتدادا طبيعيا لحياة العرب البدو لاسيما البيئة الصحراوية القريبة إلى نفوسهم. ولذلك كله ظل هناك تأثير عميق متبادل بين البلدين – سلبا وإيجابا – لا سيما في إقليم دارفور السوداني المتاخم لتشاد. وكان للسودان بحكم جواره وتداخله مع تشاد حظه من ذاك الاضطراب حيث تدفق السلاح إلى السودان بسبب الحرب الأهلية في تشاد، وبسبب توفر السلاح تطورت نزاعات الكلأ والمرعى عبر التاريخ من نزاعات بالأسلحة البيضاء إلى نزاعات تستخدم فيها الأسلحة النارية فتصاعدت آثار النهب المسلح وتعطل النشاط الاقتصادي ولم تسلم دارفور قاطبة من تعقيدات تشاد السياسية، فكانت أزمة دارفور التي مازالت تفت في عضد البلاد وأمنها واستقرارها.
ومع ذلك كله لم يشهد البلدان منذ استقلالهما أي تقارب إستراتيجي، بل ظلت فترات التقارب مجرد تكتيك ولحين، يريد به كل طرف من الطرفين تجاوز أزماته داخلية المستعصية. بيد أنه ومنذ العام 2010 وقع البلدان على اتفاق أمني مشترك مازال صامداً على غير عادة الاتفاقات بين البلدين. ولعله بسبب هذا الاتفاق قامت القوة العسكرية المشتركة الأسبوع الماضي باعتراض دعم عسكري مهم كان في طريقه لمليشيا الدعم السريع التي تقاتل اليوم الجيش السوداني في حرب عنيفة اندلعت في 15 ابريل الماضي. وذكر موقع Africa Analysts نقلا عن ما وصفه بالمصدر الموثوق، بأن الجنود التشاديين التابعين للقوات التشادية السودانية المشتركة قاموا بعملية الاعتراض وقاموا بتسليم الإمدادات إلى حركة العدل والمساواة السودانية إحدى حركات دارفور المسلحة والموقعة على اتفاق سلام مع الخرطوم وأعلنت مؤخرا وقوفها بوضوح مع الجيش السوداني في مواجهة مليشيا الدعم السريع.
ومعلوم أن مساعد القائد العام للجيش السوداني والرجل الثالث في هيكل تراتبية الجيش، كان قد شن هجوما لاذعا على الدول التي تدعم المليشيا المتمردة وقال ان الدعم يجد طريقه لوجستيا عبر تشاد. وقد يمثل ما قامت به القوة المشتركة لاسيما الجانب التشادي توجها جديدا ووعيا بخطورة تطاول النزاع في السودان وتوسع رقعته واحتمالات انتقاله إلى تشاد إذ كل ظروف انتشار الحريق في تشاد متوفرة وبقوة، ولا سبيل لتجنب ذلك إلا بتعاون وثيق بين البلدين لاسيما في المجال الأمني والعسكري.
ومما يؤكد الارتباط الوثيق للاوضاع الأمنية في البلدين، أن أي نشاط عسكري سالب لأي من الدولتين مع طرف ثالث يهدد الأمن والسلم في الدولة الأخرى. قبيل اندلاع الحرب في السودان اشتكت تشاد من نشاط مشبوه لمليشيا الدعم السريع على الحدود مع دولة أفريقيا الوسطى المجاورة للبلدين، وحينئذ قام الرئيس التشادي محمد ديبي بزيارة سرية للخرطوم موضحا للسلطات في الخرطوم أن قائد مليشيا الدعم السريع أقام بالتعاون مع مجموعة فاغنر الروسية معسكرات لتدريب المعارضة التشادية قرب الحدود السودانية مع أفريقيا الوسطى، في مخطط للإطاحة بحكمه. واليوم هناك الآلاف من عناصر المعارضة التشادية، والذين دربتهم فاغنر في أفريقيا الوسطى يقاتلون حاليا مع مليشيا الدعم السريع في الخرطوم، أبرزهم زعيم حركة «نضال مظلوم» التشادية حسين الأمين جوجو، بعد أن أعلن عن نفسه في مقطع فيديو مما عزز اتهامات الخرطوم للمليشيا باستخدام مرتزقة من غرب أفريقيا. وكان جوجو قال في الفيديو، «إنهم بعد إسقاط البرهان في الخرطوم سينتقلون إلى العاصمة نجامينا للسيطرة على تشاد».
إن آفاق التعاون السوداني التشادي لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني وإن بدا في الوقت الحاضر أولوية قصوى؛ فقد سبق أن تعاون البلدان قبل عدة سنوات وحينها أثمر التعاون الأمني بينهما استقرارا غير مسبوق في حدودهما، مما شجع على تعاون اقتصادي يشمل تصدير نفط تشاد عبر أنبوب يمر عبر أراضي السودان من غربه إلى أقصى شرقه حيث موانئه على البحر الأحمر. إن تصدير نفط تشاد عبر السودان إن قدر له أن يكتمل سيحقق نتائج ايجابية ليست على المستوى الاقتصادي بل على المستوى السياسي مع دول الجوار الأخرى، وربما يشجّعها للدخول في مثل هذه الشراكات. وللسودان أنبوب نفطي هو الأطول من نوعه في إفريقيا والشرق الأوسط وهو السبيل الوحيد لتصدير نفط دولة الجنوب في الوقت الحاضر، ولذا ربما ذلك يقلل تكاليف إنشاء خط فرعي مكمل لتصدير النفط التشادي. وهناك إمكانية مشروعات للربط بين البلدين، متمثلة في مشروع سكة الحديد الذي كان قد عُهد به إلى شركات صينية، وطريق القاري حيث التزم الجانب السوداني بإيصال الطريق إلى مدينة الجنينة الحدودية، فيما وافقت دولة قطر على تمويل الطريق بين مدينتي أبشي التشادية والجنينة السودانية.
وبالفعل إذا ما توفرت لدى قيادة البلدين الإرادة لبناء علاقة إستراتيجية بين البلدين، فإن الشروط السياسية والاقتصادية وحتى التاريخية متوفرة وحاضرة. إن تاريخ العلاقة بين الخرطوم وانجمينا المثقل بالاضطراب والمواجهة، سببه الأنظمة السياسية المتعاقبة في كلا البلدين؛ بيد أنه في نفس الوقت لا يمكن بأي حال من الأحوال إغفال الآثار السالبة للتركة الاستعمارية الثقيلة التي كافحت بضراوة كل المشتركات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. لقد وقف الاستعمار بآثاره الباقية ومحاولاته المستمرة، حجر عثرة في وجه محاولات الإصلاح والتعاون بين القُطرين.
https://m.al-sharq.com/opinion/09/12/2023/السودان-وتشاد-تأثير-متبادل-لا-فكاك-منه