عاشق عروس الرمال يكتب : *الأبيض عروس الرمال.. حينما تشع ذكراها*
عاشق عروس الرمال يكتب :
*الأبيض عروس الرمال.. حينما تشع ذكراها*
===============
لم يساورني الشك لحظة واحدة في أن كل إنسان يحب موطنه وبلدته ومنشأ طفولته، لكن الأبيض مدينة ذات سر نادر، وكيمياء مختلفة للعشق لكونها عرفت أول ما عرفت سرّ التعايش الاجتماعي، علي عكس التشرزم والفرقة التي ضربت أنحاء واسعة من السودان.. وسر هذه المزيج أنك يمكن أن تحيا وتعيش في الأبيض ببطاقة الانتماء فقط، وهوية الكردفاني، ولا يسألك كائن من كان عن جنسك أو اتجاهك..البيوت أبوابها مشرعة ومفتوحة علي بعضها مثل القلوب النابضة..والنوايا البيضاء صافية كالماء الزلال.. لذلك جمعت الأبيض في بطونها الفلاتة، والهوسا، والبرقو والبرتي، والزغاوة والبديرية بتفرعاتهم والشويحات، والهوارة والهواوير والجعافرة والخنادقة والحضور، وفيها الجعليين والعبدلاب والرباطاب، وعاش فيها الشايقية والجابرية والركابية والمناصير والبزعة والدناقلة والمحس، وجاء إليها أهل الشرق من البجة والهدندوة والبني عامر ليعيشوا مع المسيرية الحمر والزُرق، ومن بعدهم الحوازمة وأولاد حميد والمحاميد وكنانه وأولاد راشد والرزيقات وبني هلبة والتعايشة، عرفنا فيها النوبة والدينكا والشلك والمنداري، وكانوا حضوراً في مشهدها ناس دار الريح ودار حامد والكبابيش والكواهلة والشنابلة وحمر ومعاليا ومجانين وزيادية وجوامعة، فالأزقة والأحياء شاهدة علي مكونات الجبلاب والعركيين والحلاوين والعسيلات والدويحية ورفاعة والشكرية، وسوق الأبيض ومبيعات الجُملة كانوا فيها عيال الشكينيبة، وود راوه، والمسلمية وعرب الجزيرة.
لم أري تسامحاً اجتماعياً كما في عروس الرمال، ولم أشاهد تسامحاً دينياً كما شاهدته بأم عيني في تواصل المسلمين والمسيحيين في الأبيض..وهذا النسيج المعقد في العادات والتقاليد والموروث، وفي اللهجات والسحنات، جميعه انصهر في بوتقة الأبيض وجاذبيتها.. كنا شهوداً علي مجتمع الأقباط والآرمن، والأغاريق، والشوام والهنود، والسوريين، والأقباط المصريين النقاده واللبنانيين وبعض اليهود الذين جاءوا إليها في الحقب الأولي من الخمسينيات ونقلوا جالياتهم وعائلاتهم وثقافتهم وتراثهم وفنونهم وكونوا أندية فخيمة منها الجالية القبطية المعروفة بصنعة النسيج والصباغة وتجارة الأقمشة كنت تجدهم زرافات ووحدانا في المكتبة القبطية يقضون أماسيهم،”ناس نضاف وأنيقين بشكل لافت” وفي مدارس كمبونى الإيطالية تجد الراهبات يزيدهن بياض الثوب صفاء ونصاعة وفي العيون الخُضر لمعانا وبريقاً، ولعطرهن افتضاح.. و(ياحليل الحمر .. البقصروا العمر.).. نساءٌ لم يستطع وصفهن إلاَ شاعر الغابة والصحراء وغضبة الهبباي صلاح احمد إبراهيم عندما قال:
(يا عيوناً كالينابيعِ صفاءْ … ونداوة
وشفاهاً كالعناقيدِ امتلاءْ … وحلاوة
وخُدوداً مثل أحلامي ضِياءْ … وجمالا
وقواماً يتثنّى كبرياءْ … واخْتيِالا
ودَماً ضجَّتْ به كلُّ الشرايينِ اشتهاءْ.. يا صبيَّة
تَصْطلي منهُ صباحاً ومساءْ … غجريَّة)..
استغفر الله من وصف قد يفقدُ الوقار، وأنا من تعلمت عندهن في رياض الأطفال.
وجود القنصلية المصرية في الأبيض فتح الباب لمدارس النهضة التي ارتبطت بالسيد وليم نسيم وجعلت من معظم أبناء المدينة يتلقون تعليمهم الثانوي بها، ومن ثم تقودهم الخطي لدخول جامعة القاهرة فرع الخرطوم.. وإن لم تخني الذاكرة تجاه أولئك الشخوص يقفز أول الأسماء الخواجة لاكي ودكانه جوار دكان
المجاهد، والمكانين يقال أنهما كانا لعوض الكريم القرشي والد الشاعر محمد عوض الكريم “صداح كردفان”، ومن ثم نيكولا أبو ديك، وخواجة بنيوتي، ونجيب بنيوتي، برسوم ملطى، وعبده بشاي، وعائلة المخرج السينمائي المصري الكبير عاطف سالم، ومكين، وأولاد فاضل نادر الذين اشتهروا بسيارات الفورد، وعمنا فكتور أشهر فنى بطاريات عرفته الأبيض، وقارو، وشكرى، والبير، عاشوا بيننا كراماً، هُم ومن جاء به القدر إلى البقعة المباركة، وتلك حياة أخري ومذاق أخر للجبن المضفر والسادة والجبن الرومي، والأقمشة والحرائر، والدمورية والدبلان، والترفيرا، والكستور، وتوب الكرِّب الجابوه النقادة، وما جاد به عصر الحرية وكأنك في أثينا أو سويسرا أومدينة فينسيا “البندقية” والاسم واحد لمدينة العشاق والرومانسية في ايطاليا.. فالمعالم وحدها تجعلك تقارن بلا مبالغة بين الشانزليزيه أوالجادة التي تعدّ واحدة من أحلى واجهات باريس التى يزورها الناس في جميع الفصول، وهكذا عروس الرمال في جميع المواسم والشهور..
ولكن للخريف مزاجه وخصائصه، هبات نسائمه ودعاشه ورزاز أمطاره.. وللراحل قاسم عثمان بريمة شيخ شعراء كردفان “عليه الرحمة”، ملحمة شعرية يتابع فيها الخريف من تَشكُل سحاباته إلى هطول أمطاره، وخيره الوفير علي الأرض والناس والماشية.. والحديث عن قاسم سيطول ويطول لأن ما بيننا من رباط وجداني يستحق مني الوفاء.. يقول قاسم:
ﻳﺎ ﺣﻠﻴﻞ ﻛﺮﺩﻓﺎﻥ ﻭﻛﺘﻴﻦ ﺗﺪﻭﺩﻱ ﺭﻋﻮﺩﻩ
ﻭﻳﻤﻮﺝ ﺍﻟﺴﺤﺎﺏ ﻭﺃﻃﻴﺎﺭﻩ ﺗﻌﺰﻑ ﻋﻮﺩﻩ
ﻳﺘﺒﻠﻞ ﻧﺴﻴﻤﻪ ﻳﺸﺮﺡ ﻟﻴﻚ ﻣﻌﺎﻧﻲ ﺳﻌﻮﺩﻩ
ﺗﺒﻴﻦ ﺯﻯ ﻋﺮﻭﺱ ﺑﺎﻟﻬﻨﺎﺀ ﻭﺍﻟﻨﻌﻴﻢ ﻣﻮﻋﻮﺩﻩ..
وللقصيدة بقية سترد لاحقاً..
أعود للحديث عن المكونات التي قدمت لتستقر في الأبيض، فقد شيدوا وشادوا أندية وملتقيات ظلت حتى وقت قريب شاهداً علي عصر الحضارة والمعمار سواء المكتبة القبطية، أو الكنيسة القبطية، والكاثوليكية، والكنيسة الثالثة، والكنيسة الرابعة، أو النادي السوري، والحي البريطاني الأنيق، فلم نكن نحتاج إلى حوار حضارات.. لأنه كائن وموجود، ولأننا أرسينا حوار مجتمعي متحضر منذ زمان بعيد، فلم نكن لحاجة إلى خبراء أو منظرّين في هذا المجال ليعلونا كيف ندير حواراً، ومن ثم الطبيعة حاضرة عندنا.. إذ تميزت عروس الرمال برفاهية وترف وتحضر، كيف لا وقد جاء زمان كانت تصدّر فيه كردفان الصمغ العربي والحبوب الزيتية والماشية، والإبل..”علي قفا من يشيل” في اكتفاء ذاتي دون حوجة لمخزون استراتيجي..
وقد ذكر البشري مكي أحمد عيسي في مقالة له طرفاً من المعالم السياحية والأندية والمطاعم التي امتازت بها عروس الرمال في أجمل أيامها، والتي أدار تشغيلها أمهر الطهاة من السودان واليونان ولبنان وسوريا اتساقا مع التنوع العرقي والثقافي للمدينة فكان حلواني ومطعم لوكس يديره الخواجة يورقوريدس وزوجته كاترينا، وحلوانى جروبى الراقي وحلوانى رامونا، ومونتانا وهافانا يقدمان الحلويات الأوروبية والعربية والعصائر الطازجة لفواكه الموسم والحليب الطبيعي الطازج البارد والحار والسندوتشات المنوعة والداندرمه والآيسكريم، وهذه الأماكن يرتادها مساءا الرواد يمتعون أنفسهم وضيوفهم بالأصناف المنوعة والخدمة الراقية المهذبة من الجرسونات والإداريين ويأتي في هذه المرتبة مطعم البلك الشهير الذى يرتاده زبائن مميزين ويشرف على الخدمة شخصيا العم طه البلك ويقدم الوجبات الثلاث ومن ميزة هذا المطعم نوعية الأكل الراقية والنظافة وتقديمه المياه الباردة المثلجة كميزة فارقة عن مطاعم المدينة الأخرى ويأتي أيضا مطعم محمد الحسن قدري..
ومن المقاهي الشهيرة بالأبيض قهوة مرجاوى وهى من المقاهي الشعبية التى تتوسط السوق مقابل موقف البصات وتعتبر مركز للمهن الحرة يجتمع فيها العمال ومقاولي البناء يشربون الشاي ويلعبون الورق والضمنه وتزدهر قهوة الأخوان مساءا من المرتادين لتناول الشاي بالحليب بوصفة سرية لا تجدها عند الآخرين وتأتى قهوة ومطعم أولاد مجالس ذات النكهة الخاصة التى تظللها روح الحاج مجالس وتعليقاته المرحة وتعليقاته الذكية ويرتادها لاعبو كرة القدم والرياضيين بالأبيض خاصة المورداب لانتماء أولاد مجالس لفريق الموردة العريق..
سادتي الكرام الحب للمدينة العروس لا حدود له.. وللحديث بقية من شجون.