د. محمد بشير عبادي يكتب : *الحوكمة.. كل شئ بقدر*
د. محمد بشير عبادي يكتب :
*الحوكمة.. كل شئ بقدر*
إذا قدر لأحد أن يزور دولة أوروبية سيلاحظ هناك أن يد المدنية طالت كل شبر من الأرض، مهما ذهبت إلى أبعد نقطة قصية ستجد أن هنالك يد سبقتك ومهدت لك الطريق، ستلحظ ذلك في الطرق المعبدة الممتدة، ستلحظه في العناية بالغابات والحقول والسهول تنسيقا ولوحات إرشادية ومناظر منسقة تسر الناظرين.. ستجد المزارع في حلته البهية يفلح الأرض ويعتني بالحيوان، كأنه آس يجس عليلا، فالعمل الحقلي عندهم عبارة عن حزم تقنية يقوم المزارع بإنفاذها في مزرعته، فالتوسع عندهم رأسي يهتم بجودة العمل، لذا نجد إنتاجهم وافرا من أضيق حيز.
هذا من أمر الريف أما المدن، فتجدها تعمل بإيقاع موزون تحس به في حركة الناس وسكناتهم وحركة المركبات في تناغم عبر مسارات محددة، فهذا مسار للمشاة وآخر للدراجات الهوائية وذاك للحافلات الكبيرة وفي منتصف الطريق مسار واسع للسيارات المسرعة، لذلك تندر الحوادث والاختناقات المرورية رغم الأعداد المهولة من البشر والسيارات.
كل شئ هناك يتم بتخطيط دقيق وآليات تنفيذية أكثر دقة، لا يوجد شئ يترك للصدفة، وإنما عبر منظومة متكاملة لتنفيذ الأعمال وتنمية البيئة الداعمة واستدامتها، بما يخدم مسار التطور وهذا ما يعرف إصطلاحا ب(الحوكمة)، التي تستند إلى القوانين والإجراءات واللّوائح المنظمة، المتسمة بمشاركة الأطراف كافّة بما يضمن تحقيق الرؤية والأهداف.. ففي الحياة لا توجد صدفة أوحظ، مصداقا لقوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }.
هذا المفهوم نحن في السودان في أشد الحاجة إليه لإدارة موارد الدولة والاستفادة القصوى من عوائدها،بعد عصور التيه والغفلة التي عاشها أهل السودان طوال الحقب الماضية، لم تهدر موارد بلادنا إلا بسبب حالة السيولة الإدارية والتنظيمية
التي عشناها لعقود طويلة، فالضبط الإداري هو مجموعة من الإجراءات التي تتخذها الإدارة العامة بهدف حماية النظام العام في المجتمع، وذلك من خلال تنظيم نشاط الأفراد ووضع بعض القيود الضرورية عليها ويتميز الضبط الإداري بطبيعته الوقائية، أي أنه يهدف إلى منع وقوع الضرر قبل حدوثه وليس إلى التعويض عنه بعد وقوعه.
بتطبيق هذا المفهوم على الحالة السودانية، سيجنبنا هدرا واسعا وقع على مواردنا، المنهوبة بواسطة دول كثيرة بنت إقتصاداتها على هذه الموارد، بإعادة تصديرها بعد إعمال القيمة المضافة عليها، بل ونسبتها إليها كأنها هي دولة المنشأ لا السودان وحسنا فعلت وزارة التجارة مؤخرا بوضعها لوائح وتشريعات جديدة تنظم الصادر السوداني وإنشاء محفظة لعوائده،فالشاهد أن الصادر السوداني رغم شحه في كافة المنتجات، الفترة الماضية، لا يعود ريعه لخزينة الدولة مباشرة وإنما لحسابات بنكية لبعض رجال الأعمال في الخارج، دعك مما تم تهريبه من معادن ومحصولات نقدية، لذلك لم تؤثر الصادرات إيجابا في محاربة علل الاقتصاد السوداني من تضخم في أسعار السلع وتدهور لقيمة الجنيه السوداني.
نتمنى بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، أن يطبق مفهوم الحوكمة في بلادنا بشكل متكامل وأن تكون الحرب رغم مراراتها علاجا بالصدمة يحدث نقلة نوعية في التفكير الجمعي لأهل السودان قادة وقواعد، بضرورة إعادة البناء وفق معايير علمية عملية، نعود فيها إلى الفطرة السوية التي أساسها الذكاء والإحسان وكل الصفات التي تكون معنى الإنسانية والحياة الصافية، غير المرتبطة بأيدلوجيا وافدة أو منهج تعليمي يدجن أفكارنا ويحدد إتجاهاتنا وفق ما يريد الغير، لا وفق إرادتنا، ليستمر في نهب ثرواتنا ونساعده نحن على ذلك وعن رضى، كأننا منومين مغناطيسيا، فيزداد هو غنى ونزيد نحن فقرا حد المسغبة.. نريد للحوكمة أن تطبق لتنظم تعليمنا ومعاملاتنا الديوانية وزراعتنا وصناعتنا وتجارتنا وأن يحافظ على هويتنا وحدودنا.. وكل أوجه الحياة، لتنساب بيسر كالماء الرقراق في الجدول وسط الحديقة الغناء،فنرتقي من منطقة الضغط المنخفض التي جعلت الطامعين تصل بهم الجرأة أن يقارعونا بالسلاح ليخرجونا من ديارنا حسدا من عند أنفسهم لما نملك.. لنرتقي لمنطقة الضغط المرتفع، فاعلين، لا مفعول بنا دوما، ممسكين بكل كروت اللعب من أرض ذات موقع مميز وموارد غنية لا مثيل لها، لتكون أيدي أهل السودان عليا لا سفلى.