منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د. محمد بشير عبادي يكتب : *إفعلوها.. حتى لا يتمكنوا من أقوى حصن*

0

د. محمد بشير عبادي يكتب :

*إفعلوها.. حتى لا يتمكنوا من أقوى حصن* 

كتب هذا المقال في 29 مارس 2023م، قبل نشوب الحرب في السودان بأيام قلائل

عندما قامت الثورة العرابية في مصر (1879-1881م)،لم تقم بسبب استحواذ الضباط الشراكسة على الرتب العليا فحسب واستقطابهم للرتب الصغرى ودعوتهم للتمرد على قادتهم المصريين الوطنيين وأحمد عرابي كان أحد هؤلاء القادة.. الأمر لم يكن كذلك فقط، هناك أمر آخر أشد خطورة هو ما دعى عرابي ورفاقه إلى الثورة وهو عملية تقليص قوة الجيش المصري من قبل البريطانيين بحجة تقليل النفقات المالية، فمصر الخديوية وقتها كانت غارقة في الديون والتي بسببها تم تعيين وكيل بريطاني وآخر فرنسي للإشراف على تحصيل الديون ووصل بهما الأمر أن صارا وزيران في مجلس النظار (الوزراء) المصري وهو ما آثار حفيظة الوطنيين، لما اعتبروه انتهاكا للسيادة المصرية وتدخل سافر في الشؤون الداخلية للدولة، لم يقتصر تدخل الدولتين (بريطانيا وفرنسا)، في مسألة تحصيل الديون وإنما امتدت أياديهم إلى الجيش المصري وذلك بإعادة (هيكلته) توفيرا للمال وقد كان لهما ما أرادا، بل زادوا عليه بقرار إخلاء حاميات الجيش المصري في السودان وهي المهمة التي ابتعث لأجلها لاحقا “غردون باشا” والتي لقي حتفه فيها على يد جيش “الإمام محمد أحمد المهدي”عند فتح الخرطوم (26 يناير 1885م).
سقت هذه المقدمة التاريخية ونحن نعايش هذه الأيام ونتابع (ورشة الإصلاح الأمني والعسكري) والتي انهت أعمالها لحظة كتابة هذه السطور وربما تعلن توصياتها لاحقا.. أيا كانت هذه التوصيات، فهي في اعتقادي ورشة معيبة بسبب العوار السيادي الذي لازمها، فالشأن العسكري والأمني ابتداءََ لا يناقش في العلن وعلى الفضاءات  المفتوحة ليعلم به الصديق والعدو، هو شأن ينبغي أن يكون في غاية السرية وداخل المؤسسة العسكرية نفسها، فأهل مكة أدرى بشعابها ولا يعقل أن يتم الإصلاح من خارجها.. الأمر الآخر إن هذه الورشة تمت بحضور وإشراف الآلية الثلاثية وهنا كأنما التاريخ يعيد نفسه، هي ذات آلية تحصيل الديون التي بسببها قامت الثورة العرابية في مصر نهايات القرن التاسع عشر، مع اختلاف الزمن وتغير الأساليب والشخوص.
إستعمار الشعوب على مر التاريخ، يتم بالتدرج وتهيئة المسرح، وتخدير الضحية قبل الإنقضاض النهائي.. التخدير يتم بخلق قابلية للشعب الذي يراد استعماره، أي جعله يتقبل الاحتلال وكأنه جاء مخلصاََ له لا جاثماََ على صدره، مستعبداََ له لأجل استغلال ثرواته ونهبها.. بل تصل حالة القابلية درجة أن تساعد الضحية جلادها وأن تعينه على جريمته بكل أريحية وممنونية.
حدث ذلك عندما تم شيطنة الدولة العثمانية التي كانت إمبراطوريتها ممتدة حتى داخل أوروبا والتي أحيت الخلافة الإسلامية، فتم تفكيكها (صامولة صامولة) .. حدث ذلك في مصر بعيد الثورة العرابية، بعدما أرغم خديوي مصر للإستنجاد ببريطانيا والتي هيأت لذلك قبلاََ بإعادة هيكلة الجيش المصري.. فدكت أسوار الإسكندرية بمدافع اسطولها البحري وكانت هزيمة العرابيين في معركة “التل الكبير” المشهورة وكان إحتلال مصر.. ذات السيناريو تكرر عقب شيطنة الدولة المهدية وإثارة الفتن والقلاقل الداخلية والحصار الخارجي، ثم تلتها الضربة القاضية بالإبادة الجماعية التي حدثت في معركة كرري (2سبتمبر1898م) وبعدها تم إحتلال السودان بواسطة بريطانيا..بصورة كربونية كان إحتلال فلسطين بواسطة بريطانيا التي هيأت المسرح للصهاينة، بأدوار وظيفية متعددة ومتدرجة، كان ختامها عام(1948م)، بالإستيطان الكامل إلى يومنا هذا.
قراءة التاريخ تكون للعبرة والعظة مما حدث وليس للتقوقع داخله أو البكاء على الأطلال.. فهل يتعظ أهل السودان؟! ونحن نشاهد في الخرطوم، “ولزلي باشا” (قائد حملة إنقاذ غردون) وهو يتبختر في شوارعها و”سلاطين باشا” (آخر مدير لدارفور عند قيام الثورة المهدية وصار أسيراََ لدى الخليفة عبدالله قبل أن يهرب إلى مصر ويعود مفتشا عاماََ لحكومة السودان بعد معركة كرري)، سلاطين يدخل بيوت أمدرمان بحثاََ عن خليفة آخر للمهدي لكي يقتص منه.. هل يتعظ أهل السودان من “توماس لورانس” (لورانس العرب) آخر، ليخدع (شريفاََ) لنا ويعده بملك لم يتأت لأحد قبله..أم سنشهد ثورة عرابية سودانية هذه المرة، ثورة ليست حصراََ على الجيش وقادته فقط وإنما ثورة شعبية شاملة يقودها جيش السودان حامي الحمى، فالجيش من الشعب وإليه والزود عنه ليس مهمة قادته فقط، هي مسؤولية كل مواطن سوداني غيور على بلده ورمز سيادته وعزته وصائن وحدته..فثورة وقودها الشعب لن تضام ولن تهزم، حتى وإن واجهتها أعتى الأساطيل..فالسيل حرب للمكان العالي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.