منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

كتب الملازم أول محمد ناني: *من دفتر التضحيات*

0

تُصاب في المدرعات وأنت إبن الخرطوم، يُخليك أربعة عساكر للمستشفى بعد أن وضعوا حياتهم على المحك لأجلك،إثنان منهم من زالنجي،والثالث من خشم القربة،الرابع من الدمازين…تُخلى بعدها إلى منزل العم “محمد صديق” بالحماداب الذي لا تعرفه أصلاً،كل ما في الأمر أنه وجدك تنزف قرب منزله،فيشملك مع زوجته وبناته الخمس بعطفٍ وحنان غريب،يبدو أنهم رأوا في عيونك عيون إبنٍ وأخٍ يعرفونه من سنين…

تأتي إلى السلاح الطبي أمدرمان وتظن أنك وحدك لكن إحساسك يخطيء،فحيثما تولِّ وجهك تجد دفعتك أو سنيرك أو جنيرك…يكفي أن تجد واحداً من هذا المثلث طالما أنت بالقوات المسلحة…

قبل أن أخضع للعملية الجراحية بثلاثة أيام كنت أشرب قهوة في الكورنيش مع ثلاثة من أبناء دفعتي..جلسة يُفترض حسب قولهم أنها بغرض رفع معنوياتي وتجهيزي للمستشفى وملازمة السرير الأبيض عدة أيام…

تأتي فتاة عشرينية تحمل بوكيه من الورود الطبيعية بألوانها الزاهية للبيع..على ما أذكر كانت هنالك بائعة واحدة للورود قبل مدة “مي تقريباً”..لكن أنت تعلم السودان ونظرية “ملك المنقة وملك ملوك المنقة”…المهم أن الرزق حلال وهذا يكفي…
https://t.me/marsadsudani
الأجواء في الوضع الطبيعي مهيأة لتبيع،فهؤلاء شباب في أواخر العشرينات وبهم بقايا إحساس،لكن هي قلوب العسكر لمن يحكم من على البعد…فشلت كل محاولاتها لإقناعهم بشراء الوردة..كآخر محاولة منها أشارت إليَّ قائلةً لهم “صاحبكم دة محتاج ورود ترفع نفسياتو لأنو مريض”…
أخبروها في حكمة بالغة كما يخبر كهنة المعبد عامة الناس أن الدعوات التي سيدعون لي بها أهم من الورود،وأن ال3500ج سعر الوردة هذه يمكن أن نشتري له بها أقاشي وعصير وقهوة وحليب ونحكي له قصة ما قبل النوم وهذه أشياء أفيد له من وردة،إتهمتهم بغلظة القلوب وجفاء النفوس،سمعتها وهي تنصرف تقرأ جزء من الآية الكريمة “ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ”…

العزيز ود الجاك يتصل بي قبل يوم مستفسراً عن “هل كتبت الوصية؟”،يخبرني بأنه جهز لي فستان زفاف يليق بأعزب مثلي لأُكفن به وصندلية ومحلب لأُغسل بها…
السنير حذيفة يطلب مني أن نأخذ صورة قبل الدخول لغرفة العملية لأنه يرى في وجهي ملامح الشهادة…! أخبرهم بأن العملية بسيطة وليست بهذه الخطورة فيذكرونني بالمرحوم لاعب الهلال السابق والي الدين،يمكن أن تؤدي جرعة زائدة من المخدر لموتك،ثم يُربت على كتفي ويطلب مني ألا أقلق،الغريب أنه جلس خمس ساعات يُعلمني كيف أقلق…

آخر يُذكرني بحظي الجيد لأنني سأظفر بالحور العين من غير مهر ولا شيلة،يخبرني بأنني تأخرت عليهم جداً،فمن المفترض أن أكون معهن منذ أغسطس الماضي،”لكن ماف شيء،بكرة تخش العملية وتلحقهم” بصوت يملؤه الوقار والسكينة ختم كلامه…

دعك من مشهد تقسيم ثروتي وأنا حي،فهنالك من إختار هاتفي ليكون من نصيبه،وآخر حقيبة ظهري وغيره…

هنالك من تحسر على حالي لأنني سأُدفن بعيداً عن أهلي،فأستدرك يواسيني ويذكرني بأنهم جميعا أهلك،وسيضعون صورتي بورفايلاً لمدة شهر ثم دورة رياضية بإسمي وإفطار في رمضان القادم في منزلي المتواضع وأُنسى بعدها كما قال…عندي معلومة قديمة أن الخروف إذا أردت ذبحه فإنك تخفي عنه السكين،ما الذي تغير؟!!!…

تذكرت تلك القصة عن عمدة مشهور في إحدى قرى الجعليين أسلم الروح بعد نضالٍ طويل مع المرض،حين استعدوا لحمله على الأكتاف نحو مثواه الأخير وسط تكبير الرجال وعويل النساء، همس ابنه الصغير بجذع في أذن عمه بأن والده حي لأنه رأى اصبع ابهامه يتحرك مراراً..! فرد عليه عمه بحسم “شوف يا ولد بلا خيابة معاك؟ علي الطلاق أبوك دة كان قام هز بضراعاته برضه ندفنه، انت داير القبايل تشمت فينا وتقول الجعليين آخر الزمن بقوا ما بعرفوا الموت؟”…

تبدل أمني وسكينتي خوفاً،ليس من تبعات الجراحة،لكن خشيت أن أخرج حياً فيصرون على دفني..حتى لا يُقال بأن العسكريين آخر الزمن بقوا ما بعرفوا الموت…

عندما إستنكرت هذه الأفعال والأقوال وجدت أنني متهم منهم بالجهل وضيق الأفق وقلة المعرفة،فهم حسب ما يقولون يمنحوني Positive Enrgey بغرض تجهيزي…تجهيزي لحياة البرزخ أظنهم يقصدون…

سمعت أن المرضى في الغرب وأوربا يأتون إليهم بالورود،ويُنتقى الكلام إنتقاء وتذكيرهم بأنهم قادرين على المواجهة والمجابهة،هكذا سمعت…

حكى لي أحد الظباط المظليين بأنهم كانوا ينتظرون الطائرة لتأتي لتنفيذ القفزة الجوية…المهم أن أحد المعلمين قدم مقترحاً بتعليمهم غسل الميت وتكفينه بدلاً عن الإنتظار…! لك أن تتخيل،تنتظر طائرة لتقفز منها من على إرتفاع آلاف الأقدام فتُعطى محاضرة عن تعليم غسل الميت…

بعد أربع ساعات ونصف أخرج من غرفة العمليات أجد نفسي محاوطاً بأكثر من عشرين شخص لا قرابة بيننا ولا صلة بيننا غير القوات المسلحة التي جمعتنا،عيونهم تعلوها الرأفة والخوف،يتألمون كلما آلمني الجرح…

يبدو أن بائعة الورود لم تكن تعلم أن خلف قسوة الكلام و القلوب وغلظتها وهدير الدبابات والمدافع وأصوات المعارك والذخائر ورائحة الدماء،بساتين وورود وروحٌ وريحان،ومحنة مغلفة وإن إدعوا العكس…

تظن أنك وحدك وتكتشف أن معك الشرق والغرب والشمال والجنوب،فعن إقليم الجنوب السنير”حذيفة” و “عبد الباقي” كوستي والجزيرة أبا ..إقليم سنار وعزة الفونج “النفراوي” حضورياً وود الجاك غيابياً..أرض المحنة وقلب الجزيرة الخضراء التي أضحت حمراء “الزين والأمين ومحمد فضل ورامي وأبوبكر خضر وحذيفة”…
دامر المجذوب ودار جعل وعطبرة”شاكر وأحمد تاج السر وأبو سفيان”…
قضروف سعد وآدم الهادي…
كردفان الغرة “مصعب وبرير ومحمد عبد القادر”…
الجنينة ودار أندوكا “محمد طيب دهب”، “عبد الله بن مسعود” مسار الوسط والخرطوم..وآخرون كُثرٌ،فالمجال هنا ليس للحصر…

كلنا نحنُ هؤلاء،بإختلاف ألواننا وسحناتنا،عاداتنا وتقاليدنا،مناطقنا…جمعتنا القوات المسلحة بخيط وهمي رفيع لا يُرى،الظروف المضغوطة هي التي تخرج معادن الناس،إما أسوأ ما فيهم أو خير ما فيهم،في السِّلم كلنا جميلون وراقون ونؤثر على أنفسنا،أما في الحروب ترى ما في الدواخل من غير حجاب وقد رأيت كل خير من رجال لا أستطيع جزاءهم…

تذكرت يوماً أُحضر فيه مصاب إلى المستشفى وهو بين الموت والحياة،سمعته يقول جملةً واحدة “شوفوا لي أي زول من دفعتي،الدفعة ١٨ الكدرو”…لم يطلب أن يُتصل بأهله أو أي أمر آخر،تبدو الفكرة واضحة والرسالة بائنة،”دفعة” تعني الكثير…

شاكر لكل من حضر أو إتصل، لكل من شملنا في دعواته سراً وجهراً، لا أراني الله فيكم مكروهاً…
✒️ منقولة #متشكرين_ومقدرين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.