منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

د. محمد بشير عبادي يكتب : *المنظومة القانونية.. بين الجمود والمواكبة*

0

من الإشكالات الرئيسة التي تواجه المؤسسات العدلية والمنظومة القانونية برمتها في السودان، هو عدم تطور ومواكبة بعض القوانين واللوائح لطموحات ومتطلبات الناس في عصرنا الحالي وهو عصر متسارع الإيقاع في شتى مناحي الحياة،فلا يعقل أن يطبق في يومنا هذا قانون أو لائحة شرعت منذ عهد الإحتلال البريطاني (1898م-1956م)،مهما جرى عليها من تعديل أو إضافة، فذاك عهد قد ولى وقد شرعت فيه القوانين بما يخدم تلكم المرحلة الغابرة، لذا فكفاءة المنظومة القانونية في أي دولة لا تنبع فقط من صياغة نصوصها بطريقة محكمة وواضحة، بل بقدرة هذه النصوص على التكيف والإستجابة لمطلوبات التطور للناس المعنيين بها.
يبدأ هذا الأمر من تشريع الدستور وهو أسمى القوانين وأعلاها درجة ويقصد به، مجموعة القواعد الأساسية التي تبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، فالدستور يبين توزيع الإختصاصات بين السلطات العامة في الدولة (السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية).. بعد قيام “ثورة ديسمبر 2019م” ، نجد أن آخر دستور كان يعمل به هو (دستور 2005م) وقد تم تجيمده واستعيض عنه ب”الوثيقة الدستورية” والتي جرى تعديلها بعد إنضمام الحركات المسلحة التي وقعت على “اتفاق سلام جوبا، أكتوبر 2020م”، ثم كان التعديل الآخر بتجميد مجموعة من موادها بعد قرارات رئيس مجلس السيادة الإنتقالي في”25 أكتوبر 2021م”..صحيح أن البلاد لم تدخل في فراغ دستوري بالمعنى الحرفي وذلك لصدور كثير من المراسيم السيادية التي منعت ذلك في عدة أوجه ولكن بالمقابل لا يمكن القول بأن البلاد محكومة بدستور شرعي ثابت مستفت عليه بواسطة الشعب، لذلك أي تشريعات تقع في الفترة الانتقالية، إنما هي منظّمة للفترة وليس تأسيساََ لفترات قادمة، فذاك إستحقاق ديمقراطي يتم عند قيام مؤسسات الدولة المنتخبة في حينها.
هناك أيضا التشريع العادي وهو يلي الدستور في المرتبة ويقصد به كل ما تصدره السلطة التشريعية في الدولة في حدود إختصاصها الموضح بالدستور ويطلق على هذا النوع من التشريع إسم “القانون” مثل قانون الأحوال الشخصية وقانون التعليم العالي وقانون الإستثمار والشركات وهكذا… وهو أيضاََ يجاز من المؤسسة التشريعية (البرلمان).
هناك تشريع فرعي آخر أو ما يسمى ب “اللوائح” وهو التشريع الذي تضعه السلطة التنفيذية بمقتضى الإختصاص المقرر لها في الدستور وإن كان الأصل أن السلطة التنفيذية تتولى مهمة تنفيذ القوانين التي تسنها السلطة التشريعية، إلا أن بعض الإعتبارات العملية فرضت منح الإختصاص التشريعي للسلطة التنفيذية بصفة إستثنائية وما يصدر عن هذه السلطة يطلق عليه، “التشريع الفرعي” وهو يهدف إلى تنفيذ القوانين (لوائح تنفيذية) أو ترتيب المصالح العامة (لوائح تنظيمية) أو المحافظة على أمن المجتمع وصحته وسكينته (لوائح الضبط أو الشرطة) ويعتبر التشريع الفرعي أدنى التشريعات درجة وهو المعنى بمقالنا هذا.
إن اللوائح المنظمة لحياة الناس اليومية في حركتهم وسكونهم هي التي تحتاج لمواكبة مستمرة، فحركة السير والمرور مثلاََ وما يستلزم من تنظيمها وضبطها تحتاج لمراجعات دورية لقيمة الغرامات الناجمة عن المخالفات، حسب سعر صرف الجنيه السوداني وقبل ذلك حسب أعداد المخالفات المسجلة، فكلما كانت الجزاءات صارمة، قلت المخالفات وكذا الحال بالنسبة للوجود الأجنبي في البلاد، كلما زاد الحزم في تطبيق قوانين ولوائح الإقامة للأجانب، كلما قلت المخالفات في هذا الصدد وذلك بحصر وتسجيل الأجانب بدقة وإيقاع العقوبات الرادعة لمن يخالف وترحيل من يرتكب جرماََ إلى خارج البلاد وهكذا…
هذي الأمور مجتمعة تحتاج لكفاءة المشرّع، فالقوانين مرهونة بزمانها ومكانها ولا يمكن لقانون جامد إكتساب قاعدة الرضا الشعبي التي تمنحه الشرعية اللازمة لتسهيل مهمة تطبيقه،إذ لابد أن يكون مفهوماََ ومهضوماََ لدى المجتمع، ملبياََ لحاجاته في الخدمات والمعاملات المتعددة،تجارةََ أو إستثماراََ أو خدمات تتعلق بحقوق المواطنة، كإجراءات إستخراج الأوراق الرسمية بمسمياتها المختلفة وغيرها من المعاملات.
نجد في الدول التي راعت التجديد والمواكبة لقوانينها ولوائحها، تطالع الناس كل صباح عبر وسائل الإعلام المتعددة، بإجراءات جديدة منوهة إياهم بإتباعها، فيما يتعلق بكافة المعاملات الحكومية وكل جديد حولها، تبسيطاََ للاجراءات وتقديم كافة الخيارات في مرونة ويسر وفي ذات الوقت بصرامة، تبسط هيبة الدولة وتحفظ للمواطن حقوقه وتحقق له الشعور بالأمان داخل وخارج بلده.. هذا الأمر لا يتم بعصاةٍ سحرية ولا بمهارة مسؤول مهما كانت شخصيته قوية ومهنيته عالية، هذا الأمر يتم بواسطة مراكز بحوث تقدم إحصاءات دقيقة و إستطلاعات للرأي العام تقيس به مدى صلاحية هذا القانون أو تلك اللائحة، كما تقدم إحصاءات لرجع الصدى تقييماََ وتقويماََ للقانون المحدد وإختبار كفاءته وملاءمته لمطلوبات المرحلة وقد سهل التطور التكنولوجي ذلك كثيراََ.. يتم ذلك أيضا عبر مؤسسات الدولة وبآليات للتنفيذ محكمة بشرياََ وإلكترونياََ، تنفذ القانون دون محسوبية أو مجاملة أو محاباة أو تراخٍ، هذي هي دولة القانون التي ينشدها الجميع..دولة يكون القانون فيها حيّاََ يمشي بين الناس، لا نصوصاََ جامدة محفوظة في الأضابير يتحجج بها موظفي الدولة أمام الجمهور، لتصبح معوقاََ لمصالح العباد بدلاََ من قضائها.. دولة القانون التي تحقق الأمن والطمأنينة للناس في معاشهم وفي غدوهم ورواحهم، فالأمن سبب الإستقرار وبالإستقرار تحدث التنمية ونهضة البلاد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.