السر احمد سليمان يكتب: *كيف نتعامل مع توهم الخلود وإنكار الموت؟*
جُبل الإنسان على التكيف مع مختلف الأوضاع والحالات والأمكنة والبيئات، وقد يتطور ذلك التكيف إلى الإلف والتعلق الشديد مع ما يتكيف معه الإنسان، حتى يصل مرحلة مقاومة التغيير ورفضه، ولو كان تكيفه مع بيئة أو وضع لا يمكن تقبله في المستوى الطبيعي.
ولعلّ الوصول إلى مرحلة التكيف والإلف مع ما هو متاح، وعدم السعي للخروج من الوضع الذي يكون عليه الإنسان، بل ومقاومة التغيير ورفضه نابع من الشعور الداخلي للحاجة للاستقرار والبقاء والخلود، وهذا الشعور هو الذي يدفع الإنسان للتعلق والتمسك بما هو متاح، أو بالبقاء في الوضع المعين على الرغم مما به من عيوب، أو على الرغم من علمه بعدم استمراريته!
والتكيف على الوضع أيا كان يجعل الفرد يلتجئ لحيل الدفاع النفسي غير السوية لتقبل الأوضاع والتكيف معها، وتتمثل تلك الحيل في التبريرات التي يتخدها الإنسان كحجج لمقاومة التغيير، ولو كان ذلك التغيير للأحسن، قال الله عزّ وجلّ: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون}[الأعراف:28].
ولذلك يتشبث الإنسان بالبقاء في الحياة، ويدفعه الإحساس الداخلي بالحاجة للخلود لتوهم الاستمرارية والأبدية، وينعكس ذلك على حياته اليومية، وخاصة فيما يتعلق بالموت! فتجد الفرد يرتاح جدا ويطمئن عندما يبني بناء مسلحا قابلا للبقاء لقرون طويلة على الرغم من علمه بأنّ حياته وحياة أبنائه ستكون أقصر من ذلك.
وتظهر حيل الدفاع النفسي الموهمة بالخلود والمنكرة للفناء أن يقوم البعض بإعداد وتجهيز القبر (على الرغم من إنكار الموت)! بصورة جميلة كأنّما يريد أن يكون القبر محطة مؤقته مريحة ولكنها لا تقطع الاستمتاع بالبقاء والاستمرار على الوضع الجميل الذي يكون عليه الإنسان كما يزعم. والبعض يقوم بالتوصية بتحنيط الجثمان بعد الموت من أجل المحافظة على شيء من البقاء! أو من أجل العودة للحياة سريعا وبدون فقدان لملامح الجسد. ولعلّ ما تذخر به الآثار التاريخية تؤكد وتقدم الشواهد والأدلة المتضمنة لفكرة البقاء والخلود.
ويبرز الموت كأكبر تحدٍ يواجه الإنسان ويقطع عليه استمتاعه بتوهم الخلود والبقاء الأبدي، ولذلك يسعى الإنسان لاستبعاد فكرة الموت بحيل شتى! ويجعله مغيبا عنه وعن المحيطين به من الذين يحبهم ويعطونه البقاء والاستمرار في الحياة كما يزعم.
ويظهر توهم الخلود واستبعاد الموت بصورة كبيرة في حالة وفاة الأقربين، فتجد الفرد يتخذ موقفا إنكاريا رافضا لفكرة موتهم، ويعبر عن ذلك: مش معقول، كان كويس، كان يقول كذا وكذا، كان منتظر كذا وكذا، كان يقول لي، كنت أود أن أقول له، مش ممكن، لا أكاد أصدق.. وغير ذلك من العبارات التي تؤكد إنكار الموت وتوهم الخلود.
وقد يصاب المتوهمون بالخلود بالصدمات النفسية والاختلالات العضوية عندما يموت أحد ذويهم.
فهل من مزيل لهذا الوهم؟
الإجابة نعم!
– فأول مزيلات توهم الخلود هو آيات القرآن الكريم، وذلك لأنّ القرآن بصورة عامة مثبت للفؤاد ومزيل للاضطراب وجالب للطمأنينة، وخاصة فيما يتعلق بالموت وغيره مما لا يقبله العقل المتشبث بالخلود، قال الله عزّ وجلّ: { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}[الفرقان:32]. ومن جانب آخر فإنّ آيات القرآن تتنزل في الوقائع والنوازل بصورة عجيبة، وكأنّما تكون مخصصة لتلك المواقف خاصة، فعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب الناس وأنكروا موته ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى قام أبو بكر رضي الله عنه وخطب الناس قائلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِين}[آل عمران:144]. وقد قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: “واللَّهِ لَكَأنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ أنْزَلَ هذِه الآيَةَ حتَّى تَلَاهَا أبو بَكْرٍ، فَتَلَقَّاهَا منه النَّاسُ كُلُّهُمْ، فَما أسْمَعُ بَشَرًا مِنَ النَّاسِ إلَّا يَتْلُوهَا” (صحيح البخاري).
– وثاني مزيلات توهم الخلود هو حضور الإيمان بالحياة الآخرة، فكلما كان الإيمان بها قويا كان توهم الخلود ضعيفا، كما قال الله عزّ وجلّ في سورة البقرة:
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمين (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُون (96)}.
– وثالث مزيلات توهم البقاء والخلود هو التفكر وملاحظة التغير والفناء الذي يعتري الأشياء في الطبيعة في دورات حياة الكائنات المختلفة التي يراها الإنسان ويتعامل معها. قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون}[يونس:24].
– ورابع مزيلات التوهم بالبقاء والخلود هو استخدام التفكير الواقعي الذي يؤدي لليقين بأن لا مفر من الموت، بل إن الفرار من الموت هو فرار إليه كما ورد في قوله عزّ وجلّ: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِی تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَـٰقِیكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَـٰلِمِ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ فَیُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ﴾ [الجمعة ٨]. وأنّ الموت سيدرك الإنسان أينما كان كما قال الله عز وجل:
﴿أَیۡنَمَا تَكُونُوا۟ یُدۡرِككُّمُ ٱلۡمَوۡتُ وَلَوۡ كُنتُمۡ فِی بُرُوجࣲ مُّشَیَّدَةࣲۗ وَإِن تُصِبۡهُمۡ حَسَنَةࣱ یَقُولُوا۟ هَـٰذِهِۦ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَیِّئَةࣱ یَقُولُوا۟ هَـٰذِهِۦ مِنۡ عِندِكَۚ قُلۡ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ فَمَالِ هَـٰۤؤُلَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِ لَا یَكَادُونَ یَفۡقَهُونَ حَدِیثࣰا﴾ [النساء ٧٨]
– وخامس مزيلات التوهم بالبقاء والخلود هو تعظيم الله عزّ وجلّ والإيمان بأنّ الله تعالى هو الباقي ولا باقي غيره، وذلك من خلال تفريد صفاته عن غيره من المخلوقات، قال الله عزّ وجلّ في سورة الرحمن: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَام (27)}.
والله أعلم
د. السر أحمد سليمان
أستاذ علم النفس بجامعة حائل
السعودية
….
#منصة_اشواق_السودان