حسن فضل المولى يكتب: *مصر.. تلك الأيام ..*
يُطلقون عليها ( المحروسة ) ..
و نُطلق عليها ( مصر المؤمَّنة ) ..
و ( مصر المؤمَّنة ) ،
عنوان قصيدة ، من ( مائة بيت ) ، نظمها من بلدي ( السودان ) ،
العابد الشيخ ( عبدالرحيم البرعى ) ، أحصى فيها ( واحداً و سبعين ) من
الأولياء المَوْسُومِين بالصلاح في ( مصر ) ، من بين مئات
المئات المؤلفة ..
مُنادياً ،
( لا تجهل أمْرَهُم
في مصرَ مقَرَّهم ) ..
ولا غرابة في ذلك ،
و ليس ذلك بكثير على ( مصر ) ..
فمنها انبعثت أنوار النبوات
الأولى ،
و استجابت لنداءات التوحيد
الأولى ،
و استقبلت طلائع الإسلام
الأولى ..
و رسمت معالم الحضارة
الأولى ..
و بذا غدت في نظر الكثيرين
الأولى ..
فهي لا غِنى عنها ،
أبداً ، أبداً ..
حتى أولئك الذين يوسِعونها ذمَّا ،
تجدهم يُسارعون إليها ،
و يلوذون بها ..
و هي عندي كالدهر ،
و الدهر إذا ساءك منه زمنٌ ،
سَرَّتْك منه أزمانٌ ..
و كذلك المصري ،
إذا أغضبك منه قولٌ أو فِعلٌ ،
سرتك منه أقوال و أفعال ..
و مصر كانت منذ الأزل ،
و ستبقى في الأزل ..
هي ( مصر ) ..
ليست ( أم الدنيا ) فحسب ،
إنها ( الدنيا ) بأسرها و أجمعها ..
و لك أن تتخيل هذا الوجود
بدون ( مصر ) ..
و لك أن تتصور البشرية بدون
( المصريين ) ..
هذا ما خرجت به ،
و أنا أغادرها في العام ( ٢٠٠٦ ) ،
بعد ( ثلاثة أعوام و نصف ) ،
قضيتها ( مستشاراً إعلامياً ) ،
في ( سفارة السودان ) ..
و اليوم يعتادني الحنين ، فأعود
لما ضَمَّنته خواطري ،
( طرائق و رقائق ،
( من الكتياب إلى قناة النيل الأزرق ) ..
و هو تَذَكُّر و تعلُّق بتلك الأيام
الخوالي و النواضر ..
و ها أنذا أجد اليوم ،
أهلي و معارفي و ذوي مودتي ،
يتدفقون عليها ، متخذين منها ،
سكناً طيباً ،
و رزقاً حسناً ،
و حِمىً آمناً ..
في ( العام ٢٠٠٢ ) دفعت باستقالتي
من ( تلفزيون السودان ) ، فعرض
عليَّ الأستاذ ( عبدالدافع الخطيب )
العمل ( مستشارا إعلامياً بمصر ) ..
و ( عبده ) كما يحلو لصديقنا
النحرير ( صالح محمد علي ) ،
كان يومها ( الأمين العام ) لوزارة
( الإعلام ) ،
و ( الخطيب ) ، من أولئك الذين يفِيضون عليك من الاعتناء
و التلطف ما يغبطك و يسمو بك ،
و أنت معه كمن يجالس ( حامل
المِسك ) فلا يأتيك من تلقائه إلا
ما يُريحك و يسرك ..
وافقْتُ ، بعد تردد كان مبعثه
الاحساس بقلة حيلتي إزاء هذه
المهمة العظيمة ، في هذا ( البلد ) ،
( البلد ) الذي منه يبدأ (الفعل) ،
و ( البلد ) الذي إليه ينتهي ( الفاعلون ) ..
و هبطت أرض ( مصر ) ، مُثْقلاً بالمخاوف و الآمال ..
و لحسن حظي كان السفير يومها
الأستاذ ( أحمد عبدالحليم ) ..
و ( عم أحمد ) عندما تقترب منه
تدرك كيف تكون أخلاق النبلاء ،
و كيف يكون صنيعهم ..
هو الندى ، و الأدب ، و التواضع
و الأناقة ، و الفهم ..
لا تملك إلا أن تُجلّه ،
فقد سمعت أكثر من مرة
الرئيس ( حسني مبارك ) و هو
يناديه ( بعم أحمد ) ..
و هو الصبر ، فقد كان مَعلولاً
عِلةً لا يعرفها إلا المقربون ، فهو
لايشكو و لا يضجر و لا يضعف ،
لدرجة أننا كنا نستمد منه القوة
و الجلد وهو يباشرنا و يسعى
بيننا ..
كان يجلس الساعات الطوال في
نُزُلِه المأهول ، يحدث ضيوفه
حديث الخبير بما جرى من
أحداث و مآلاتها ، فلا يمل و لا
يملون ..
كان يتدفق و هو يحكي و يقصص ،
فتتحسر أن تظل هذه الزخائر
المعرفية حبيسة صدره لتذهب
بذهابه ..
و سعدت و أنا أرى الصحفي النابه ( مضوي خير الله ) ، يجلس إليه
و يستنطقه ، و عندما أدرك في
( كراسته ) الصفحة ( ٤٧ ) ،
اشتد المرض على ( عم أحمد )
و بعدها فارق الحياة ..
فارق الحياة بعد عمرٍ أنفق سنينه
ولوفاً عفيفاً زاهداً ..
و لما كنت قريباً منه قرباً كان يُؤثِرُني فيه و يفضي إليَّ بخاصة شأنه فإني أشهد أنه قد لقي ربه و هو مَدين
و متحرراً مما يتباهي به الخلق
و يعجبون ..
و ما ينبئك مثل خبير ..
و لا أجد أخبر من أستاذنا
المرموق الأمير ( جمال عنقرة ) ،
يُعَضِّدُ ما ذهبت إليه ،
و ما سآتي عليه ..
و طفقت أتقلب في نواحي ( مصر ) ..
و بحكم اهتمامي ،
اقتربت كثيراً من ( ماسبيرو ) حيث
مقر ( إتحاد الإذاعة و التلفزيون ) ،
و الذي يتسع جوفه ( لخمسة
وثلاثين ألفاً ) من العاملين ..
و كنت أوالي السعي ( لمدينة
الانتاج الإعلامي ) ، حيث صناعة
الصورة و صياغة الرؤى ..
و أتردد على ( الأوبرا ) أروِّحُ عن
نفسي و استريح ..
و كثيراً ما أغشى (مؤسسة الإهرام) ، على أيام ( إبراهيم نافع ) ،
حيث تتجلى عظمة الصحافة
و سلْطَنَتُها ،
و مرة رافقت السفير (عباس النور) ،
و كان يومها (وزير الدولة بالإعلام) ،
فاندهش و هو يرى (المصاعد) على كثرتها و ضخامتها و هي ممتلئة
بخلق كثير فالتفت إليَّ مازحاً :
( ياحسن هسه عليك الله ديل
كلهم بجو هنا يكتبوا و يمشوا !!) ..
و عشرات العشرات من أمهات
( المظان ) و ( المثابات ) ، التي
تؤتي أكلها كل حين ، من فنون
القول و الأداء و المعارف وزينة
الحياة الدنيا ..
و كان تأثيرها أن غدا ( الفعلُ )
ما فعلت ( مصر ) ،
و ( القولُ ) ما قالت ( مصر ) ،
و ( الحسَنُ ) ما استحسنت
( مصر ) ..
و أنت في ( مصر ) ، و بأقل سعي
منك تجد نفسك مُحاطاً بنفر
عزيز من ذوي الهم المشترك ، يظاهرونك و يذللون لك السبل ..
ففي اليوم الأول لوصولي
استيقظت على هاتف الصحفية
و الكاتبة الساطعة ( أسماء
الحسيني ) ، و هي ( سودانية )
الهوى أكثر من ( مصريتة ) ،
و من بعد الدكتورة الكاتبة
( أماني الطويل ) ، و أذكر دعوتها
لي يوماً بمنزلها مع نفر كريم ،
و ما غمرتنا به من احتفاء
و إكرام ،
و عاشقة ( السودان ) و أهله ،
الصبوحة ( صباح موسى ) ،
و الأستاذ الإعلامي ( محمود
حسين ) ، قبل أن ينضم ( لقناة الجزيرة ) ..
و الدكتور ( هاني رسلان ) ..
و الكاتب الصحفي العَلَم الأستاذ ( حمدي رزق ) ، و كلي امتنان له
لتلك الدعوة التي أقامها وداعاً لي ،
و أمَّها لفيف من الأصدقاء ..
و الجميلة الدكتورة ( حنان يوسف ) ،
أستاذ الإعلام ( جامعة عين شمس ) ،
و ( عميد كلية الإعلام بالأكاديمية
البحرية ) و ( رئيس المنظمة العربية
للحوار و التعاون الدولي ) ،
و ( حنان ) ، منتهى العذوبة ، و منتهى
الحب لكل ما هو سوداني ، و دفعها
تعلقها بالسودان إلى إنشاء ( مبادرة
النيل الشعبية ) ..
و بيني و بينهم النابهة ،
( نادية موسى ) ، لا تهدأ ..
هؤلاء و أولئك ،
و كثيرون من فوارس ( الكلمة ) ، وجدتهم إلى جانبي ، فتحقق لي
من المقاصد ما استعصى على
آخرين ..
و من جانبي سرحْتُ في أنحائها ..
أغتنم كل سانحة لأكون حضوراً
في ( نواديها) و ( منتدياتها ) ،
وبين ( نجومها ) اللوامع
و ( مناراتها ) السواطع ..
أحرص على متابعة ( مهرجان
القاهرة للإذاعة و التلفزيون ) ..
و تسرني رؤية الأستاذ الصديق ( إبراهيم أبو ذكرى ) رئيس
( الإتحاد العام للمنتجين العرب ) ،
و الذي جعل من هذا ( المهرجان )
عُرساً للأناقة و الجمال و الإبداع ..
و في يومٍ حزين شاركتُ أكثر من
( ١٥ ألفاً ) في تشييع ( النمر الأسمر )
الفنان ( أحمد زكي ) من ساحة
مسجد ( مصطفى محمود ) ،
و رأيت كيف بكى ( المصريون ) ،
مِن أعلاهم إلى أدناهم ، من جسد
أدواراً عظيمة من حياتهم
و تاريخهم المعاصر ..
و ترددت على الشاعر ( الأبنودي ) ،
و مرة اصطحبته بعربتي من
مسكنه إلى ( مطار القاهرة ) ،
و كذلك عند عودته من ( السودان ) استجابة لدعوة صديقي الراحل ( عزالدين محمد إبراهيم ) ،
مؤسس ( سودانيز ساوند ) ..
و هذا هو ( الأبنودي ) ،
( عشب الربيع مهما اندهس بالقدم ،
أو انتنى للريح ،
يشب تاني لفوق ،
يغني للخضرة و طعم الألم ) ..
و بتكليف من أخي ( جمال الوالي
رئيس نادي المريخ ) يومها ،
بتوجيه الدعوة إليه ، سعدت بزيارة الفنان ( محمد منير ) بمسكنه
الكائن في ( قاردن ستي ) ،
و بالرغم من أن الزيارة لم تتم ،
إلا أني وقفت على مدى حرصه
على اصطحاب ( أجهزة الصوت ) الخاصة به ، فالفنان ( احساس )
و ( صوت ) و زمن ..
و تسمَّرت طويلاً أمام ( سحارة )
و الدته التي يزين بها المدخل ،
و هذا هو ( منير ) عندما يغني ،
( قالت لي بريدك يا ولد
عمي
تعال دوق العسل سايل على
فمي
على مهلك علي ما بحمل
الضمي
على مهلك ده أنا حيلة أبوي
و امي
نعناع الجنينة المسقي في
حيضانو
شجر الموز طرح ضلل على
عيدانو ) ..
و بمنزل الفنانة ( جواهر ) و زوجها
( سامي ) لا أنسى تلك ( المائدة ) المحتشدة بما لذ و طاب ، إكراماً
لي ، و صديقي السفير الدكتور
( عبد العزيز حسن صالح ) ،
و كم سررنا و نحن في ضيافة
( حبيبي يا أسمريكا ) ..
و في الثلث الأخير من ( رمضان )
يرن هاتفي ..
كيفك ( يا أبوعلي ) ..
أهلاً ( شيخ علي ) ..
أنا يا حبيب بكره كالعادة جايي
أحضر ( سحور الفنانين ) و راجع طوالي ..
هذا ( علي مهدي ) ..
و السفير الفنان ( علي مهدي ) ،
له في مصر حظوة و سطوة
و عزوة ، و له أتباع و مريدون ..
و اصطحبته من ( المطار ) إلى
( ترعة المريوطية ) ، حيث أضاء
المكان ( بالنجوم ) و ( الثريات ) ،
و شاركتنا ( طاولة السحور ) الفنانة
( ليلى علوي ) و قد لَزِمت جوار
( شيخ علي ) طيلة مُكثنا ،
و كانت بادية السرور و الابتهاج
بمجاورته ، الأمر الذي أثار غبطتي ،
لا حسدي ، و بعدها بزمان اشتكاني ، مازحاً ، إلي صديق مشترك بأنه
عَرَّفَني على ( ليلى علوي ) ، و بقيت
امشي من وراهو ..
بمنتهى السلاسة و الاندياح تجد
نفسك منساباً في ( مصر ) ،
( مصر ) التي عرَفْتَ و ألِفْت ،
قبل أن تهبط أرضها ، و تخالط
إنسها و جنها ،
تجد نفسك تعرفها هرماً هرماً ،،
و شارعاً شارعاً ،،
و مقهىً مقهىً ،،
و حيَّاً حيَّا ..
تعرفها ،
مساجد ، و أسواق ، و حدائق ،
و مطاعم ، و شواطىء ، و مسارح ،
وجامعات ، و مكتبات ..
و إن لم تهتف يوماً ( ناااصر )
فقد دمعت عيناك و الست
( أم كلثوم ) تبكي ( الأطلال ) ..
( رُبَما تجمَعُنا أقدارُنا ذاتَ
يومٍ بعدما عزَّ اللقاء ) ..
و ( أحمد رامي ) يرثيها بعد
موتها ،
( ما جال في خاطري أنّي
سأرثيها
بعد الذي صُغتُ من أشجى
أغانيها
قد كنتُ أسمعها تشدو
فتُطربني
واليومَ أسمعني أبكي
وأبكيها ) ..
و إن لم تقرأ ( العبقريات )
أو ( الأيام ) أو ( الظلال ) أو ( كل
الشهور يوليو ) ، أو ( رحلتي من
الشك إلى اليقين ) ، أو ( العبرات ) ،
فأكيد قد سهرتَ الليالي مع
( أولاد حارتنا ) أو ( العمر لحظة )
أو ( الباطنية ) أو ( الفرافير )
أو ( الوسادة الخالية ) ..
و بالتأكيد ،
قرأتَ ( لمحمد حسنين هيكل )
و ( أنيس منصور ) ..
و استمعتَ إلى ( كشك ) ،
و ( عبدالباسط عبدالصمد ) ،
و ( الشعراوي ) ،
و لقد هزَّني ( الشعراوي ) ، في آخر
أيامه ، و هو ممسك بيد ( حسني
مبارك ) مذكراً و واعظاً ، فقال
فيما قال :
( إذا كنت قدرنا أعاننا الله عليك ،
و إذا كنا قدرك أعانك الله علينا ..
إن المُلك كله بيد الله ، يؤتيه
من يشاء ، فلا تآمُر لأخذه ، و لا
كيد للوصول إليه ..
لذا أنصح كل من يجول برأسه
أن يكون حاكماً ، أنصحه بأن لا
تطلبه بل يجب أن تُطلب له ،
فإن رسول الله قال :
“من طُلِب إلى شيئ ٍأُعِين عليه ،
ومن طلَبَ شيئاً وُكِل إليه “) ..
و من منا لم تصعقه ( النكسة ٦٧ ) ،
و ينتفض فرحاً في ( ٦ أكتوبر ) ،
و يُربِكه اغتيال ( السادات ) ،
و مأساة السندريلا (سعاد حسني) ..
و كم أسَرَتنا ( عزة نفس )
أمير الشعراء ( شوقي ) ..
( نعم يشتاقهم قلبي و لكن
وضعت كرامتي فوق اشتياقي
و ارغب في وصالهم و لكن
طريق الذل لا تهواه ساقي ) ..
و ليس بأقل منها ( عزة نفس )
شاعرنا ( التيجاني حاج موسى ) ،
لِمَن جاءت تفتش الماضي ،
و الماضي ولى زمان ..
( و عزة نفسي مابية علي
أسلم نفسي ليك تاني ) ..
و تبقى ( مصر ) في وجدانِ كثيرٍ منا نحن ( بني السودان ) ..
( ياصاحي هِمَّنا لزيارة اُمنا
مصر المؤمنة باهل الله ) ..
و هي ،
( مصر يا أخت بلادي ياشقيقة
يا رياضاً عذبة النبع وريقة
يا حقيقة ) ..
و هي ،
( فيك يا مصر أسباب أذايا
و في السودان همي و عزايا )
و هي ،
( يا السمرة و حبيبة
يا النادية و رطيبة
أموت في القصر العيني
و تنقذني الطبيبة ) ..
و هي ،
( سوف تنأى خطاي عن بلد
حجرٌ قلبُ حوائِه صلد
و سأكتم الجراح في كبدي
غائراتٍ ما لها عدد ) ..
و ليس الأمر عندي كذلك و لكن
شاعرنا الفذ ، شاعر ( يا فتاتي ) ،
( الطيب محمد سعيد العباسي) ،
شاء له حظه الوقوع في براثن تلك الفتاة ( المُسْتفِّزة ) ،
أما ما عدا ذلك ( فالمصريات )
أنيسات أليفات ..
و يستهوينك هُنَّ ، أي ،
( المصريات الناعمات القاتلات
المحييات المبديات من الجمال
غرائبا ) ..
و الوصف قاله ( المتنبي ) ..
و هذا يقودني إلى أن ( المصريين ) ،
و مهما يبدر من ( سوءٍ ) من ( قلةٍ )
من بعض ( المتوحشين ) فهم في الغالب يألفون و يختلطون
و يبذلون الود ..
و في ثقافتهم و تكوينهم النفسي
استعداد للاختلاط و الانصهار
و ( المصاهرة ) ..
و ثمار ( المصاهرة ) و تجلياتها
لا تخطئها عيناك و أنت ترى من
الملامح و السحنات ما يعبر عن
عن شعوب و قبائل العالمين
مِن ( عُربٍ ) و من ( عجم ) ممن
تعرفهم بسيماهم ..
فمن الوجوه ترى ،
( البيضاوية ) و ( المستديرة )
و ( المربعة ) و ( المثلثة )
و ( المسلوبة ) و ( المنتفخة ) ..
و من العيون ترى ،
( الزرقاء ) و ( الخضراء )
و ( الرمادية ) و ( العسلية )
و ( الضيقة ) و ( الواسعة )
و ( الغائرة ) و ( الجاحظة )
و التي ( في طرفها حور ) ..
و من الأنوف ترى ،
( الفطساء ) و ( المرتفعة )
و ( المستقيمة ) و ( المعقوفة )
و ( المدببة ) ..
و من ألوان البشرة ترى ،
( البيضاء ) و ( الصفراء )
و ( الحمراء ) و ( السمراء )
و ( المائلة إلى السواد )
و ( خاطفة اللونين ) ..
و بالرغم من أوجه التباين هذه ،
إلا أن الكل يُعَبِّر بلسانٍ مصريٍّ
مُبين ..
و نكهة مصرية محببة ..
و حكمة مصرية ثاقبة ..
و هاك اسمع ..
– ( ما لهاش إعادة
عيشها بسعادة ) ..
– ( ما تحطش رجل على رجل
قدام حد كبير ) ..
– ( مفيش أكل وحش ) ..
– ( دا حرام و يغضب ربنا ) ..
– ( ما تبصش لرزق غيرك ،
عشان رزقك هيعدي من
جنبك و مش هاتشوفو ) ..
– ( سيب الحلو على هواهو
هايرجع بعد ياخد على أفاهو ) ..
و ( مصر ) تلقاك بكل الوجوه
و الأقنعة ..
و بكل البواعث و المُحرِّضات ..
و بكل ضروب الجد و اللعب ..
و الجد فيها غالب ،
و لكن اللعب صوته أعلى و بهارجه
أطغى ..
و في ( مصر ) حيث مقامات الأنبياء ،
و مراقد الأولياء ، تجد الألسنة رطبة
بذكر الله و التوكل عليه ..
قومٌ يشيع بينهم التدين العفوي ،
فلا يخلو حديثهم من ( ربُنا ) ،
و من إسناد الأمر إليه ،
و تجد بعضهم يستعصم به ، عزَّ
و جل ، حتى في تلك المواطن
المستنكرة و الأفعال المستقبحة ،
سئلت الراقصة ( دينا ) عن الشيء
الذي تواظب على فعله قبل أن
تنخرط في الرقص ، فقالت إنها
تحرص على ترديد هذا الدعاء ،
( الله خير حافظ و هو أرحم
الراحمين ، من أمامي و من خلفي ،
و من يميني و يساري ، و فوقي
و تحتي ، الله أكبر ، الله أكبر
الله أكبر ) ،
و أها تقول شنو في جنس ده !!
و ( المصريون ) يُعظِّمون الآخر ،
و يخلعون عليه من عبارات
التبجيل ،
( يابيه ) ، و ( ياباشا ) ، و ( تأمر حضرتك ) ، ( و نحن خدامنك ) ..
و يعظِّمون العطاء مهما قَلَّ ،
ذلك أن قليله في نظرهم كثيييير ..
و يعظِّمون المهنة ، و كلٌ بمهنته
مُعجَب و مُفاخِر ، فقد تجد
( مزارعاً ) يعَرِّفُك بأنه ( خبير
زراعي ) ، و صاحب ( مقهى ) يضع
لافتة تطلق عليه ( رئيس مجلس الإدارة ) ،
و أنا في ( مقهى العمدة ) أبديت
ضيقي من صبيٍ طائش ، لا يُحسن تنسيق ( النارجيلة ) فانتدب لي
المشرف عاملاً آخراً ، أقبل علي
بكل ثقة و اعتداد مُعرفاً نفسه ،
( فُلان ١٧ سنة خبرة شيشة ) ،
فأكمل ما نقص ..
و يعَظِّمون الخروج في سبيل
التَنزُّه و الترويح عن الأنفس ،
فيخرجون أهلاً و أزواجاً و عشاقاً ،
و كلٌ ينفق على قدر سعته ، فترى
الذين يؤمون ( الكورنيش ) و هم
( يقزقزون اللب ) ، و أولئك الذين يقصدون النوادي و الأماكن
الفخيمة ..
و ( المصرية ) ،
محافظة تتجافى عن الابتذال ،
و اللائي ينطلقن متحررات
لاهيات معربدات ، يقصدن تلك
الأماكن التي هيئت لذلك ..
و رغم ما يعتري ( المصرية ) ،
من مخاشنة أحياناً ، فإنها تنفحك برومانسية عجيبة تلين لها الجلود ..
قالت :
( أروح أصلي و أعمل لك فِطار ) ..
قال :
( أدعي لي و انتي بتصلي ) ..
قالت :
( ده الملائكة حفظت اسمك من
كُتْرِ ما بدعيلك ) ..
و ما ترونه ( تمثيلاً ) يعكس واقعاً
في كثير من جوانبه ..
و ( المصري ) ،
يُوجِعُك بلسانه ، و لا تمتد إليك
يده ، لذا عليك أن تحتمله و هو
في حالة ( الهياج ) و ( الزعيق ) ،
و عليك أن تتتغاضى عنه و هو
يلسعك ( يا ابن ال … ) ،
إذ سرعان ما سَيُقبِلُ عليك بوجه
( لطيف ) و كأن شيئاً لم يحدث ..
و ( المصري ) ،
لا يرى غير ( مصر ) ،
و لا يأتي بما يسيء إلى ( مصر ) ،
فملؤ فؤاده و مشاعره ،
( تحيا مصر ) ..
و ( مصر ) أولاً ، و ثانياً ، و عاشراً ..
و لها الحب و الفؤاد ..
و لا تُباع ..
و لا تُشترى ..
و لا تُرتهَن ..
و لا ترْخَص ..
و تجد ،
( الدراما ) ،
و ( الموسيقى ) ،
و ( الغناء ) ،
و كل ثمرات الفهوم و العقول
و الألسن ، في خدمة هذه الغاية
النبيلة ، ألا وهي ( مصر ) ،
ثم ( مصر ) ..
و في مصر ،
كلما تظن أنك قد ظفرت ،
تجد ما يهزمك برسوخه و سحره ،
و تجد من يهزمك بعنفوانه ،
و تهزمك بحسن محاسن حِسَانها ..
و يهزمك ( عبدالحليم ) و هو
يصطلي ( بقارئة الفنجان ) لنزار قباني ..
( إن كنت حبيبي ساعدني
كي أرحل عنك
أو كنت طبيبي ساعدني
كي أشفى منك
لو أني أعرف أن الحب خطير
جداً ما أحببت
لو أني أعرف خاتمتي
ما كنت بدأت ) ..
و السلام .
……
#منصة_اشواق_السودان