صهيب حامد يكتب: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٥-١٢)
صهيب حامد يكتب:
آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٥-١٢)
كيف نشرع في إعادة قراءة وتأويل تاريخ الفونج؟.
حسنا.. أما وقد إخترنا بوعي نقطة بدءنا للشروع في تأويل وإعادة قراءة ما قد حدث في الثلاثة قرون ونيف التي عاشتها سلطنة الفونج بالسودان النيلي وأقاليمها المجاورة ، فيتوجب أن نختار منهجنا لإعادة القراءة والتأويل. فلقد إخترنا (الممالك الإسلامية للسودان الوسيط) كنقطة بدء تمكننا من تأويل تاريخنا إنطلاقا منها لنعرف من نكون نحن حقا وكيف نستأنف المسير وفق الهوية الحقة التي صدرنا منها وليس الهويات التي ألبسنا إياها لأهداف إستعمارية أو أهواء آيديولوجية؟!!. إذن فلسنا بصدد إعادة كتابة تاريخ بلادنا وهي الأكليشيه التي سمعناها مرارا عند أي تغيير سياسي لأن ما حدث قد حدث ولكننا نعتقد أن خللاً حقيقياً يتخلل الأستوغرافيا (كتابة التاريخ) السودانية. فالإشكالية الأولى التي تعاني منها الإستوغرافيا Histographia (كتابة التاريخ) السودانية هي نفوذ الإستوغرافيا المصرية على مناهج كتابة تاريخ السودان على خلفية ممارسة مصر لسيادتها على بلادنا منذ العام ١٨٢١م تحت دعاوى الفتح. إن ما فاقم هذه الحالة هو الإستعداد الطبيعي للمركز العروبي النيلي لحالة الإستلحاق والخضوع وهي مسألة تلقائية ناتجة عن الحالة الإستتباعية للأنظمة الفكرية والإستراتيجية لهذا المركز والمنتجة دائماً ضمن أنساق أدنى النهر للأسف الشديد!!. الإشكالية الثانية التي واجهت الإستوغرافيا السودانية هي سيادة القراءات الآيديولوجية على إتجاهات ومناهج قراءة و تأويل تاريخ السودان حيث صار تاريخنا محلاً لإسقاط الخطابات التبجيلية على الذات العروبية بدلا من أن يكون (أي التاريخ) منهجا للبحث وتقصي الوقائع. فلقد مارس المركز العروبي تمركزا (بضم الكاف) كالذي مارسه على صعيد السلطة منذ ما قبل الإستقلال ففرض رؤية في التاريخ صنعت منه (ذاتا) تحددت موضوعاتها (الآخر غير العروبي) ومتحدثا في ذات الآن بالنيابة عنهم ، وهكذا تم خلق رؤية لا تاريخية للتأريخ وهو ما نحن الآن تواً بصدد دفع إستحقاق قراءته الصحيحة بلا ضغائن عافين عما حدث في هاتيك السنين ولا نتعشم سوى أن يتفهم المركز العروبي المأزق الذي أوحلنا (بفتح الالف والحاء) فيه جميعا ، وجميعا كذلك يجب أن نتعاون على البر والتقوى للخروج منه بقاعدة كلنا فائزون (Win Win game).
الأشكال الثالث والمحزن أشد الحزن بخصوص الإستوغرافيا (كتابة التاريخ) السودانية هو أن المدخل الأيديولوجي للمثقف السوداني قد خلق ضمورا بنيوياً في ملكة التفلسف لدينا وهكذا كي نكتشف أننا كسودانيين لم يفتح الله علينا ولو بفيلسوف واحد في تاريخنا، فمصر الحديثة عجّت بفلاسفة من أمثال زكي نجيب محمود و َغيره، وكذلك لبنان وسوريا وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتاتيا. ولكننا في السودان لم يتسع إطارنا الثقافي الإجتماعي لنمو قابلة للتفلسف وقد إنعكس ذلك سلباً في كتابة التاريخ (الإستوغرافيا ) في بلادنا ، فالفلسفة للتاريخ وفي التاريخ هي المقدمة التي تلهم وتضي درب المؤرخ فتبرز تحدياته وتقدح أدواته وتحدد خياراته وتعدد وتنقد مناهجه وتقوِّم مصادره وتفتح مصادر محتملة وجديدة لم تكن في الحسبان وتفتح نفّاجات منهجية مع العلوم المساعدة كعلم الأجناس واللغويات والآثار وعلم الاجتماع والفلكلور والأدب الشعبي ، وكذلك فإن التفلسف للتاريخ يجعل الفزلكة التاريخية عملاً سلساً وممارسة محترفة ودرباً سالكاً ومضاءاً. إن الفقر الفلسفي السوداني لأمر مخجل بمعزل من إضراره بمناهج كتابة التاريخ (الإستوغرافيا) في بلادنا ، وهو كما قلت قد كان نتيجة وأصبح الآن سببا لسيطرة المدخل الأيديولوجي للمثقف السوداني. وإستطرادا بخصوص إشكالية التفلسف في بلادنا فإن المساهمة الماركسية في كتابة التاريخ في بلادنا قد خلقت تشوها بدلا من أن تكون جزء من الحل. فلقد أدّى منهج التحليل المادي التاريخي لخلق صعوبات مزدوجة. الأولى وهي لا تنفصل عن الإستخدام الأيديولوجي للتأريخ ممثلة في توظيف المنهج المادي التاريخي ومنح العامل الإقتصادي الإجتماعي ثقلا منهجيا أكبر في مقاربة تاريخ السودان الوسيط لمجتمع يتوه في أتون مرحلته قبل البرجوازية (نقد د. أبكر آدم إسماعيل لدكتور القدال في تحليله لمجتمعات الفونج ) أو الأنكي توهم الاستاذ/تاج السر عثمان بابو لطبقة عاملة جنينية في مجتمعات الفونج الغارقة في إقطاعيتها وهو شطح لا نظير له ، ولا ادري كيف يسوّغ مؤرخون ماركسيون أقحاح كالقدّال تجاوز توجيهات ماركس الصارمة في الجزء الثالث لرأس المال وهو ينوه بأن منهج التحليل المادي التاريخي لا يشتغل في أنماط المجتمعات الخراجية (الإقطاعية) مقترحاً كبديل منهج تحليل نمط الإنتاج الآسيوي (Asiatic mode of production) كوسيلة آمنة لتحليل مراحل تطور هذه المجتمعات، مقتصرا منهج التحليل المادي التاريخي على المجتمعات التي تجاوزت عتبة الثورة البرجوازية. أما الصعوبة الثانية التي مثّلها منهج التحليل الماركسي هي مقاومته لولوج منهج التحليل البنيوي بلادنا وهو ما كان يمكن أن يحدث منذ ستينيات القرن الماضي إبان الفترة التي مثّل فيها اليسار نفوذا كبيرا في الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في بلادنا.
العروي (مغربي الجنسية) موهبة فذّة في التأريخ وفلسفته، عقل مسفسط (Sufisticated) حد الإدهاش ولا سبيل لأي مشتغل بمسألة المعنى الا الإعجاب بعمله مع اختلافنا معه. لقد أسهب العروي في شرح دواعي تأليفه كتاب (الآيديولوجية العربية المعاصرة) منوهاً إلى أن المثقف العربي وفي إطار لهاثه للحاق بالنظير الغربي عليه أن يختار الماركسية كمدرسة للفكر التاريخي. ففي ثنايا ستينيات القرن الماضي ووسط الموضة الرائجة للفكر البنيوي وأساطينه (ليفي شتراوس، فوكو،لاكان،جريدا، بارت) إجترح ماركسي صميم آنذاك ( لوي آلثوسير) تيارا جديدا دعى فيه لهجر الماركسية التاريخية (ماركسية ماركس الشاب) بدعوى أن ماركس لم يختم حياته ماركسياً. لقد إستخدم آلثوسير المنهجية البنيوية لمقاربة ذلك حيث أبان أن ماركس فارق إشكالية الآيديولوجية الألمانية في الأجزاء المتأخرة من كتاب رأس المال (ماركس الكهل) وهو ما أسماه العروي تهكماً بماركسية الجزء الثالث من رأس المال!!. لقد أثار آلثوسير فتنة كبرى وسط الحركة الماركسية مما حدي بالعروي لدق ناقوس الخطر مخوّفا الماركسيين العرب من خطر البنيوية مشيرا إلى أن الماركسية لن تنمو في حقل حرثته البنيوية فضلا عن أن البنية الذهنية ليست سوى مفهوم فلسفي للإله الذي أعلن نيتشه موته في اضابير الفلسفة الغربية قبل أكثر من قرنين!!. إذن فلقد حق لليسار السوداني هجر (البنيوية) كخيار نظري للتحليل بسبب نصيحة العروي أو عدمها الأمر الذي أوقع أجحافا كبيرا في حق كتابة وقراءة التاريخ في بلادنا لأن البنيوية هي الأداة الموضوعية الحقة الخالية من الذاتية عبر تبنيها مفهوم البنية الذهنية التي تعطي أولوية لدراسة أنظمة المعنى ونفى الفرد كأداة للتحيزات والأنفعال الذاتي. عدا عبد الله بولا اليساري السوداني الوحيد الذي هجر يساريته التقليدية ميمماً شطر (البنيوية). وكي نعلم قيمة البنيوية كمنهج تحليل موضوعي ، فلقد قدّمت إحدى منظمات حقوق الإنسان السودانية المعارضة للإنقاذ في منتصف تسعينيات القرن الماضي الدعوة للأستاذ/بولا لتقديم ورقة في مؤتمر عن إنتهاكات حقوق الإنسان في السودان. إذ أراد اليسار السوداني إستغلال إسم بضخامة الأستاذ /بولا في مناجزة الإنقاذ وتوظيف قامته وسط المحافل الأكاديمية والإبداعية في فرنسا خاصة وأوروبا على وجه العموم بهدف تقديم إدانة ماحقة لها. كتب بولا ورقته الشهيرة (شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية في السودان) ، وهكذا كي يخلص إلى أن الغول الإسلاموي لم يهبط إلينا من السماء، وأن الأهم هو كشف البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الإنسان في السودان وهي بني مفاهيمية وسياسية وثقافية ودينية وإجتماعية قائمة في بلادنا حتى قبل إستيلاء الإنقاذ على السلطة بل قد تكون الإنقاذ إحدى ضحاياها ، فبهت القوم وقد هيئوا أنفسهم لسماع معلقة سياسية في هجاء الإنقاذ فأنقلب السحر على الساحر، فلشخص معلوم المشاعر السلبية تجاه الإسلاميين كعبد الله بولا ولكن يبدو في المنتهى لم يجد سوى أن يكون مخلصاً لضميره الفلسفي بعكس كثيرين باعوا ولم يزل يبيعون إلى يوم الناس هذا ضميرهم للشيطان!!. إذن وإبتداءا من الحلقة القادمة سوف نستخدم أهم أنظمة المعنى في منهج التحليل البنيوي (مفهوم التبادلية) كي نقوم بقراءة تأويلية لتاريخ سلطنة الفونج ونرى لأي مدى سوف ننجح في إستحلاب ثدي التاريخ لنسترضع به حاضر ومستقبل بلادنا بإذن الله ولله المثل الأعلى..نواصل.