بروفسور عثمان ابو زيد يكتب : *عبد اللطيف البوني …. حمدًا لله على السلامة*
بروفسور عثمان ابو زيد يكتب :
*عبد اللطيف البوني …. حمدًا لله على السلامة*
أصبحنا اليوم الخميس 27 فبراير على مقال صديقنا الدكتور عبد اللطيف البوني بعنوان طويل:
شمال الجزيرة في حرب السودان (١٥ أبريل ٢٠٢٣ – ؟؟؟)
من اللعوتة إلى نيويورك
(الدخلت فينا ما بتمرق تاني… فأنا الآن غيري).
عبد اللطيف البوني أشهر من نار على علم. لكن قد لا يعرف القارئ الكريم في البوني صفة يعرفها من اقترب منه جدًا، تلك هي محبته العجيبة لوطنه وأرضه. كأنني حاولت ذات مرة أن أثنيه من العودة لسكنه في اللعوتة وقد أمسى عليه في الخرطوم، فعرفت أنه لا يبيت إلا في بيته باللعوتة، وكنا نعجب لذلك الانتقال الصعب كل يوم ما بين شمال الجزيرة إلى الفتيحاب حيث جامعة أم درمان الإسلامية عندما ترأس قسم العلوم السياسية بالجامعة.
وللبوني مواقف مدهشة في حب الوطن… كنا في صنعاء أساتذة زائرين بإحدى جامعاتها، وصادف أنني ذهبت في الفوج الثاني من المحاضرين، فعلمت أن البوني بعد أن أكمل مدته في نهاية الأسبوع وتسلم تذكرة عودته للسودان، قيل له انتظر يومين فقط لتسافر أول الأسبوع التالي بتذكرة للخطوط اليمنية، لكنه لم يصبر على الانتظار فاشترى تذكرة على حسابه بشركة طيران أخرى وعاد للسودان. ومما يُروى عنه أيضا أنه قطع برنامج رحلة في أمريكا تقيمها هيئة أمريكية ذات شأن في برنامج باذخ للصحفيين. ترك برنامج الرحلة فجأة وعاد أدراجه إلى أرض الوطن. وقبل ذلك قطع مدة تعاقده في بلد خليجي وعاد للسودان.
بقينا مشفقين على البوني منذ اندلاع حرب أبريل لعلمنا أنه باقٍ في اللعوتة، وأنه لن يبرحها مهما تكن الظروف. والحمد لله على سلامة البوني عقب أيام نحسات مرت على هذا الوطن. ونحمد الله كثيرًا على عودته للكتابة، وقد أشار لذلك في مقاله هذا عندما قال: ” عذرًا عزيزي القارئ أرجو أن تسمح لي ببعض الأسطر أنكفي فيها على الذات دون الخروج عن الموضوعية في هذا المقال بل تدعيما لها فأصلاً أنا كنت متوقف عن الكتابة الصحفية منذ مارس ٢٠٢١ وبرسالة للأستاذ الصديق عطاف محمد مختار رئيس تحرير صحيفة السوداني المحترمة فـ (البطن كانت طامة) مما يجري في الساحة السياسية وبعد اندلاع الحرب أصبح التوقف إجباريا والنفس (انسدت) أكثر من الكتابة وأنا اكتب هذا المقال بـ (جاز المصافي) وهذه بلغة السواقين تعني أن وقود الخزان (التنك) قد نفد. فليست لدي أي رغبة او قدرة على الكتابة لا إجرائيا ولا موضوعيا فمن ناحية إجرائية فليست لدي أدوات الكتابة من لابتوب ومنضدة وكرسي فالجماعة (شفشفوا) كل البيت وتركوه قاعا صفصفا فأنا الآن أكتب على الموبايل رغم صغر الكيبورد وضعف النظر.. أما من ناحية موضوعية فإني أشعر بأنني لست ذلك الشخص الذي كان قبل ١٥ أبريل ٢٠٢٣ فالروح مجروحة والخاطر مكسور والحيل مهدود والوجدان مضطرب والنفس حزينة والزهد في كل شيء أصبح سيد الموقف فما زلت غير مصدق لكل الذي جرى. إن ما كابدناه لم نره في أعتى أفلام الرعب الخيالية”. (انتهى)
ومما شدَّني في مقال البوني تذكره أحد أصدقائه وإهداؤه المقال لروح ذلك الصديق: “إلى روح رفيق الدرب منذ الطفولة إلى الكهولة وزميل الدراسة من كنبة الأولية الى قاعة المحاضرات وتوأم الروح الأبدي الدكتور الصديق محمد أحمد مضوي (الاسم الصحفي: صديق مضوي) كنت دائما أقول: إن (ربنا بريدك) لأنك كنت محبا لكل الناس بمن فيهم المختلفين معك في كل شيء وليس أدل على محبة الله لك من أنك رحلت عن الدنيا بسودانها قبل يوم ١٥ أبريل ٢٠٢٣.. بعد هذا التاريخ انفتحت علينا صفحة مختلفة كان لابد أن يكون أول سطورها إهداء لك وتوسلا بك.. وهذا لأمر قدره الله كما سنرى في آخر المقال”.
والحقيقة أنني لم أكن لأنتبه لقَدْر الدكتور صديق مضوي لولا كلمات البوني هذه، وأنا واحد من الذين اقتربوا من صدّيق بحكم كتابته الصحفية ولعمل مشترك جمعنا، وكنت أتأمل في بعض إسهاماته لكن الكثير منا كانوا يتابعونه دون اهتمام. وأمثال صديق شفيف الروح متواضع النفس لا يجد ما يستحقه من التقدير والإجلال في مجتمع لا يأبه إلا لجهيري الصوت والصخابين وأصحاب التضخم المالي والبؤس الفكري.
ينقل البوني عن صِديق مضوي قصة قديمة ويقول: “وجدت مقالة اقتطف فيها كاتبها أسطرا من مقال للراحل صديق مضوي عن الحدود قال فيه: “إن حدود السودان الحالية نعمة عليه ولكن قد تكون نقمة إذا لم نحسن إدارتها”، وقال الكاتب إن ما حذر منه صديق قد حدث الآن والإشارة للحرب الحالية. وبالمناسبة دكتوراة صديق كانت عن حدود السودان وقد كانت رسالة علمية مجودة يمكن أن تخرج منها عدة أوراق عمل ولكن من يقرأ ومن ينشر؟ منعتني الدموع المنهمرة من إكمال المقال فسرحت مع طيف الصديق فتذكرت قصة عمرها أكثر من نصف قرن تدل على نبوغ الصديق المبكر فعندما كنا تلاميذَ في رابعة أولية. أعمارنا بين الحادية عشر والثانية عشر. وفي غمرة الاستعداد لامتحان الدخول للمرحلة الوسطى أعطانا الأستاذ اختبارا تجريبيا في مادة الدين فأحرز معظمنا الدرجة الكاملة فقد كان الاختبار سهلا (موية بس) بلغة تلك الأيام لكن الصديق نقص درجة فتأكدت أن في الأمر شيء غير عادي فذهبت إليه بعد خروج الأستاذ وسألته عن غلطته فقال لي ما عندي غلطة.. أها الحصل شنو؟ فقال لي إن السؤال الذي يقول متى تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة طبعا كلكم أجبتم بأنه عندما كان عمره ٢٥ عاما لكن أنا أخذت تاريخ ميلاده في عام ٥٧١ ميلادية وأضفت إليها ال٢٥ سنة فكانت اجابتي عام ٥٩٦ م لأن السؤال لم يكن كم كان عمره بل كان متى فاندهشت وأعجبت أيما إعجاب بما قاله فقلت له طيب ياخي أمشي راجع الأستاذ فقال لي ما في داعي طالما أنا عارف الصاح فألححتُ عليه ودفعته دفعا للدخول على الأستاذ في المكتب وعندما شرح له الصديق إجابته ما كان من الأستاذ إلا وأن أخذ الورقة وكرفسها وقذفها بالشباك قائلا لصديق: “بلاش فلسفة معاك” أها (شفتو كيف الوجع قديم؟) رحم الله ذلك الأستاذ وغفر له ولصديق ولنا جميعا”. (انتهى)
المؤلم أننا في بلادنا لا نأبه لأمثال صديق مضوي ولا ننتبه كثيرًا لما يقولونه، بل “نأخذ أوراقهم ونكرفسها ونقذفها بالشباك”، أهملنا هؤلاء واستمعنا فقط لجهيري الصوت والصخابين وأصحاب التضخم المالي والبؤس الفكري.
أخوي البوني: حمدًا لله على سلامتك، وأسأل الله أن يشفيك ويعافيك، فما نزال نرجو منك الكثير من الحكمة والصدق وحب الوطن.