منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

أمواج ناعمة د. ياسر محجوب الحسين يكتب : *السودان.. وعي في مواجهة العصبية*

0

أمواج ناعمة
د. ياسر محجوب الحسين يكتب :

*السودان.. وعي في مواجهة العصبية*

مع اقتراب نهاية الصراع في السودان، يلوح في الأفق تحدٍ بالغ الأهمية يتمثل في إعادة بناء النسيج الاجتماعي الذي تمزق بفعل الحرب، خاصة في ظل الاستقطاب الجهوي والعشائري الحاد الذي خلفته. إن تحقيق سلام دائم ومستدام يتطلب جهودًا متكاملة وشاملة تعالج الجذور العميقة للانقسامات وتسعى جاهدة لردم الهوة بين مكونات المجتمع السوداني.
في هذا السياق، يصبح تحقيق العدالة والمحاسبة ضرورة قصوى. يتطلب ذلك إنشاء آليات قضائية مستقلة وشفافة تضطلع بمسؤولية محاسبة كل من تورط في الانتهاكات والتجاوزات خلال فترة الصراع، دون النظر إلى أي انتماءات. كما يستوجب الأمر توفير تعويضات عادلة للضحايا وجبر الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بهم وبمجتمعاتهم. بالإضافة إلى ذلك، تلعب لجان تقصي الحقائق والمصالحة دورا حيويا في كشف ملابسات الأحداث وتقديم روايات متوازنة تسهم في بناء الثقة وتعزيز المصالحة. إلى جانب العدالة، يتعين إعطاء أولوية قصوى لتعزيز المصالحة والحوار المجتمعي. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشجيع مبادرات الحوار على المستوى المحلي، حيث يلتقي ممثلو القبائل والمناطق المتضررة لتبادل الآراء ومعالجة المظالم وتأسيس أرضية مشتركة من الثقة المتبادلة. كما يبرز الدور الهام للقيادات الدينية والاجتماعية في الدعوة إلى التسامح ونبذ الكراهية وغرس قيم التعايش السلمي. وينبغي كذلك إطلاق برامج توعية وتثقيف شاملة تستهدف تغيير الصور النمطية السلبية وتعزيز مفهوم الوحدة الوطنية والتنوع الثقافي الغني للسودان.
إن بناء نظام حكم شامل وعادل يمثل حجر الزاوية في عملية إعادة البناء. يستلزم ذلك إشراك جميع المكونات الاجتماعية والجهوية في العملية السياسية وصنع القرار لضمان تمثيل حقيقي وتلبية احتياجات جميع المناطق دون استثناء.
لا يمكن إغفال أهمية إصلاح قطاع الأمن وبناء جيش قوي يستوعب دمج جميع الكيانات المسلحة لاسيما التي دعمت الجيش في حربه على المليشيا.
في هذا السياق، يضطلع المجتمع المدني والإعلام بدور محوري. ينبغي دعم منظمات المجتمع المدني وتمكينها من المساهمة بفاعلية في جهود المصالحة وبناء السلام والتوعية بحقوق الإنسان. كما أن للإعلام مسؤولية كبيرة في تعزيز الوحدة الوطنية ونبذ خطاب الكراهية والتطرف وتقديم معلومات دقيقة وموضوعية للجمهور.
إن رحلة إعادة بناء السلم الاجتماعي في السودان بعد هذه الحرب المأساوية ستكون طويلة وشاقة، وتتطلب تضافر جهود جميع السودانيين وإرادة سياسية صادقة والتزامًا مجتمعيًا واسعًا. على الرغم من التحديات الكبيرة، فإن تحقيق مستقبل يسوده السلام والعدل والازدهار لجميع أبناء السودان يبقى هدفًا ممكنًا بالعمل الجاد والمثابرة.
في ظل تجربة الحرب المريرة تزايد خطر العصبية التي لم تكن يوما إلا نذير شر وسبب فرقة. وإنّ من حسن الطالع أن جلّ المجتمع السوداني يتمسك بالقيم الدينية التي تنهي عن العصبية الجاهلية، وتحض على التعقل والتسامح. لذا، هناك فرصة ليرتقِ الجميع بحوارات جدية تنفع الوطن وتسهم في بنائه، بالحكمة والموعظة الحسنة، بعيدا عن لغة الاستعداء والإقصاء.
إنّ أخطر ما يصيب المجتمعات المتنوعة هو الانزلاق إلى مستنقع العصبية، حيث يغيب العقل، ويسود منطق الانتماءات الضيقة على حساب القيم الكبرى التي يفترض أن تجمعنا. فالقوى المدنية والاجتماعية مدعوة لبذل جهودا إيجابية تقوم على الانفتاح وقبول الآخر، دون إشعار أي طرف بالهجوم أو السخرية. فالتأثير الحقيقي لا يكون بالتجريح ولا بالتفريغ العاطفي، بل بالحكمة ولين الجانب.
يطمع الوطن الجريح بأن يسهم الجميع بإذكاء الوعي بخطر العصبية، فهذا الأمر لا يليق بعصر الانفتاح والوعي، ولا بروح القيم الدينية التي تكرم الإنسان بغض النظر عن لونه أو أصله. قد يختلف السودانيون في الرؤى، وقد تتباين تفسيراتهم للتاريخ، لكن تظل الحقيقة الكبرى أنهم أبناء وطن واحد، شاء الله أن يجمعهم فيه، لا ليتنازعوا عليه، بل ليتعاونوا على بنائه. السودان ليس ملكًا لقوم دون آخرين، ولا اسمه دليل ملكية حصرية للبعض، بل هو وعاء جامع لتنوع ثري، إذا أدير بحكمة وعدل، صار مصدر قوة لا ضعف. وفي هذا الإطار، يحسن أن يتبين المعنيون دلالات بعض المصطلحات التي قد تثير التباسا أو تؤجج حساسيات غير مبررة. فعلى سبيل المثال نجد أن كلمة «أفارقة» هي تسمية جغرافية بالأساس، تطلق على سكان قارة أفريقيا بغض النظر عن اللون أو العرق. فهي تشمل شعوب شمال أفريقيا من عرب وأمازيغ وأقباط، إلى جانب سكان الغرب والوسط والجنوب الأفريقي. وعليه، فكل من ينتمي إلى أفريقيا هو أفريقي، مهما كان لونه أو أصله.
لذلك كله، وجب أن ينتبه الناس في السودان إلى أن الحل لا يكمن في طرد الآخر أو شيطنته أو التقليل من شأنه، بل في احتوائه ضمن إطار القانون والعدل والأخلاق. يجب أن يرضى السودانيون بما قسمه الله لهم، ويعملوا على مد الجسور لا بناء الجدران، وعلى التعارف والتعاون والتنافس في فعل الخيرات.
فليحذر الجميع من منطق الإقصاء الذي لا يقل سوءا عن العصبية؛ فهو شر مستطير سواء حمل شعارا جهويا أو عرقيا. فوحدة الوطن لا تُبنى بالشعارات الفارغة، بل بإرادة واعية تجمع المختلفين على أرضية العدالة والكرامة المشتركة. وعندما يرتقي الناس إلى هذا المستوى من الوعي، يكونون جديرين بهذا الوطن، ويكونوا حقا إخوة في الدين والإنسانية، لا أسرى لهُويات ضيقة تُلهيهم عن واجب البناء والعمران.
ختاما، فليتذكر الجميع أن الاختلاف سُنَّة كونية، وأن أعظم الأمم هي تلك التي جعلت من تنوعها مصدر غناها وقوتها، لا سبب تفرقها. فليكن السودانيون على قدر المسؤولية، وليعلوا فوق العصبيات الضيقة، من أجل وطن يسعهم جميعا، بكل اختلافاتهم وتنوعهم.
كاتب سوداني – المملكة المتحدة
https://www.al-watan.com/article/174164/آراء-و-قضايا/السودان-وعي-في-مواجهة-العصبية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.