*مشوار الهدن والتجارب السابقة
(قراءة تحليلية سياسية في الهدنة الإنسانية المقترحة للفاشر)*
بقلم: د. أحمد حسن الفادني
تداولت بعض المنصات الاخبارية تصريحات مسؤولين من الامم المتحدة و بعض السياسين و الخبراء عن الهدنة التي تطلبتها الامم المتحدة لمدة 72 ساعة لايصال المساعدات للفاشر واختلفو بين مؤيد و معارض لهذه الهدنة.
ونحن نرى بعين اخرى حيث بدت لنا في لحظة و للوهلة الأولى انها إنسانية بحتة، ودعت لها الأمم المتحدة الحكومة السودانية ومليشيا الدعم السريع إلى هدنة مؤقتة في مدينة الفاشر، بهدف إيصال المساعدات الإنسانية للمدنيين الذين يعيشون تحت نيران المعارك المستعرة. وقد جاء الرد بالموافقة من الطرفين، إلا أن خلف هذا الاتفاق ظلال كثيفة من الشكوك والريبة، تتغذى من سجل طويل من “الهدن المخدوعة” التي طالما استخدمتها المليشيا كفرص لإعادة ترتيب صفوفها، واستجلاب الدعم العسكري واللوجستي، والتمدد الخبيث تحت غطاء المساعدات.
# بين الإنسانية والسياسة: متى كانت الهدنة بريئة؟:
من حيث المبدأ، لا يمكن لأحد أن يعترض على وقف إطلاق نار يسهم في حماية المدنيين وتوصيل الغذاء والدواء للنازحين والمرضى. لكن في الحالة السودانية، ومع مليشيا الدعم السريع الارهابية تحديدا، تتغير القواعد، وتتشكل الحقيقة على وقع التجربة المرة. هذه المليشيا، ومنذ بدء تمردها المسلح على الدولة، لم تحترم أي التزام أخلاقي أو إنساني، واستغلت كل هدنة تم التوصل إليها لإعادة التموضع، ونهب الموارد، وتخزين الذخائر، والتسلل إلى مناطق جديدة، فما أشبه الليلة بالبارحة، ففي كل مرة يتم فيها الإعلان عن هدنة، يعلن معها – ضمنا – عن ولادة موجة جديدة من العنف بعد انقضائها. فبينما ينشغل العالم بنداءات السلام، تنشغل المليشيا برسم خرائط السيطرة المقبلة، مستفيدة من وقف العمليات الجوية، ومنحها فرصة ذهبية لتحريك الآليات وإيصال الإمدادات دون خوف من الاستهداف.
#قراءة في التوقيت والأهداف الخفية:
تأتي هذه الهدنة الإنسانية المقترحة للفاشر في لحظة فارقة، بعد الضربات القاسية التي وجهها الجيش السوداني لمليشيا الدعم السريع المتمردة، ونجاحه في صد محاولاتها لاقتحام المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية، وبالتالي، فإن قبول المليشيا بهذه الهدنة لا يعكس بالضرورة نية إنسانية، بل يمثل في جوهره طلبا للنجاة المؤقتة، وصفقة زمنية لإعادة شحن طاقاتها، وإصلاح الخلل الكبير الذي أصاب بنيتها الميدانية،فأما قبول الجيش السوداني بالهدنة، فهو موقف ينبني على اعتبارات إنسانية وضغوط دولية، مع إدراك كامل أن الموافقة لا تعني الثقة، بل رقابة مشددة، واستعداد لأي خرق محتمل، وهي خبرة اكتسبها الجيش من تجاربه السابقة مع هذه المليشيا، التي تتقن فن الغدر ولا تحترم حتى رفاقها في التمرد، ناهيك عن الاتفاقات الدولية.
#ماذا بعد الهدنة؟ المآلات المحتملة:
إذا سارت الأمور كما في التجارب السابقة، فإن المآلات لا تبشر ابدا بخير وذلك الاتي:
1. إعادة تسليح المليشيا: من خلال طرق التهريب أو الدعم الخارجي عبر بعض الأطراف الإقليمية، ستعمل المليشيا على استجلاب الأسلحة والذخائر مستغلة “الهدوء المؤقت”.
2. تسلل وتموضع جديد: قد تعيد المليشيا نشر عناصرها في الأحياء الطرفية، مستغلة انسحاب نسبي للجيش أو تخفيف الحصار، بحجة السماح بتحرك فرق الإغاثة.
3. توظيف إعلامي وسياسي: ستستخدم الهدنة كأداة في الحرب النفسية والدعائية، لتصوير نفسها كطرف “إنساني” يستجيب للنداءات الدولية، وهي ذات الصورة التي تحاول ترويجها في عواصم الغرب وكمان تعلمون هي ابعد من ذلك.
4. تهيئة لمعركة كبرى: كل هدنة في نظر المليشيا هي مجرد استراحة محارب، يليها تصعيد دموي قد يكون أعنف من سابقه، وهو ما حدث في نيالا والجنينةو الخرطوم ، و الجزيرة من قبل.
$الرسالة إلى صناع القرار:
الهدنة ليست هدفا في ذاتها، بل وسيلة يجب أن تكون محكمة بآليات رقابة صارمة، وجدول زمني واضح، مع ضمانات بعدم استغلالها عسكريا،فعلى الجيش السوداني أن لا يخدع بالخطاب الإنساني الذي يتم تسييسه، وأن يدير هذه المرحلة بعقلية الميدان لا غرف الاجتماعات ،وفي الوقت نفسه، يجب أن تعي المؤسسات الدولية أن الحياد لا يعني المساواة بين الدولة والمليشيا، وأن الهدنة إن لم تكن منضبطة بشروط شفافة وآليات مراقبة حقيقية، فإنها لا تختلف عن إعطاء الضوء الأخضر للمتمردين للغدر مجددا.
#لا ذاكرة قصيرة لمن عرف الغدر:
لقد دفع الشعب السوداني، ثمنا باهظا بسبب هذه الهدن المخدوعة، حيث يتم دوما استخدام الألم الإنساني مطية لتكريس مشروع تفكيك الدولة، فلا يجوز بعد اليوم أن نتعامل مع هذه “الهدن” كحالات إنسانية معزولة، بل يجب قراءتها في سياقها الكامل كجزء من صراع طويل لا يرحم.
إن كان لابد من هدنة، فلتكن بحذر، وبحساب دقيق، ولا يترك ظهر الدولة مكشوفا، فقد علمتنا التجارب أن اليد التي تمد للسلام قد تلدغ ما لم تحمى بالسلاح والبصيرة و العين الساهرة.
(فلا يلدغ المؤمن… من حجر مرتين)