*حوار مع المحبوب عبدالسلام.. الأنتلجنسيا والحرب*
“الحرب المشتعلة أتت بسبب التقاعس عن نصرة المشروع الديموقراطي”.
“تناقض عقيدة الإسلام السياسي مع الديمقراطية حشرها في كل المآزق التالية من انفصال الجنوب وحتى حرب دارفور”.
“المشروع الأجنبي أغرته حالة الشتات المتخلفة من قصور الدولة، فقرر أن يجمعه ويصنع من شركة فاغنر الأفريقية يغزو بها من يشاء”.
“أفق التسوية القادمة يجب أن تتجنب إعادة إنتاج قيادة برأسين”.
“أهم مقاتل الإسلام السياسي هو خلو عقيدته من أي مضمون في الاقتصاد السياسي”.
“(19) دولة أفريقية نشبت فيها حرب بعد الاستقلال بينما نجحت (21) دولة أفريقية في الاستقرار”.
“الحرب الراهنة هي أقرب شيء إلى إرهاصات لتفكيك السودان وتجزئته ومن الضروري الحفاظ على الدولة بقواتها المسلحة ومؤسساتها الأخرى”.
“الدعوة إلى نظام فيدرالي غير تماثلي تطرح تحديات عدة”.
“يصعب الحديث عن تحليل طبقي في مجتمع لا تقود اقتصاده الصناعة، والأنسب تدعيم الديمقراطية بترسيخ فكرة المجتمع المدني”.
“البشير امتنع عن تنفيذ قرار يقضي باشتراط دخول الكلية الحربية عقب الجامعة بحجة أن الناس سيزهدون في الالتحاق بالجيش بعد سن العشرين وطبقه في كلية الشرطة”.
“لا أتوقع عودة عفوية إلى سياق ما قبل الحرب وأرى ضرورة الانتقال من الانتقال إلى التأسيس”.
المحبوب عبدالسلام مثقف سوداني من طراز خاص، باحث مختص بقضايا التجديد والفكر الإسلامي، ذو اعتناء بقضايا النقد والثقافة والتاريخ، موصول بالسياسة من باب التفكير؛ له آراء في ضرورة إنجاز انتقال الحركة الإسلامية من أفق التجديد إلى الحداثة، ويرأس الرابطة العربية للتربويين التنويريين.. ذهبنا إليه في سياق الحرب المشتعلة نستكشف معه ما خفي من ملابسات نشوبها وسبل الوصول إلى مقاربة إنهائها؛ فكان هذا الحوار حلقة في نقاش مكثف مع الأنتلجنسيا السودانية وآفاق المعالجة الممكنة لإشكالات الدولة السودانية.
وصفت الأنتلجنسيا الإسلامية –أو قل وصمتها– ذات مرة بالتولي يوم الزحف.. كيف ترى حالها وقد اشتعلت حرب ضارية من شأنها أن تعيد ترتيب الأوضاع على مستوى الجغرافيا السياسية والاجتماعية وحتى على مستوى معادلة السلطة نفسها؟
عبارة الأنتلجنسيا الإسلامية المتولية يوم الزحف جاءت عنوانًا لمقالة ما تزال تنشر كل حين رغم مضى نحو (17) عامًا على كتابتها، كنت أشير إلى قصة شريحة من جيلنا وإلى موقف أثبتت الأيام صدقه، القصة هي أن الجماعة التي عنيتها بالأنتلجنسيا كانت تتمثل في الرموز الفكرية والثقافية الشابة في الجامعات بين منتصف السبعينات إلى منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وكانت تعبر في مجموعها عن أمل لتجديد عميق يبدل تيار الإسلام السياسي على الأقل في السودان ويقدم قدوة لغيره في العالم. التجديد لم يبلغ غاياته أو بتعبيري فشل في التقدم بالحركة الإسلامية من التجديد إلى الحداثة وهو ما كان مطلوبًا، أما الموقف فهو أن هذا الجيل تحديدًا أبدى إيمانًا عميقًا بالحرية الفكرية وبالديمقراطية، وثبت على ذلك في مواقف صعبة وفى وقت مبكر مثل إعدام الأستاذ محمود محمد طه، حين لم تكن قيادة الحركة دائمًا ديمقراطية، فالزحف الذي عنيته هو مواجهة الشيخ حسن الترابي لديكتاتورية الرئيس عمر البشير، فيما بدى لي أنها اللحظة التي تطابقت فيها مدرستنا الفكرية مع مواقف الشيخ، وقد كنا على خلاف معه في قضايا أخرى كثيرة لا سيما ثقته في الشريحة القيادية من حوله أو “السوبر تنظيم” حسب ما وصفه بدقة الدكتور عبدالوهاب الأفندي، لكن استقامة الترابي يومئذ مع الديمقراطية إلى درجة الزحف والمنازلة قوبلت بموقف سلبي من ذلك الجيل الذي كان يرى في الترابي من قبل رمزًا للإسلام الثوري، لكن المهم أن ذلك كله الآن في ذمة التاريخ، لكن الموقف الذي أثبتت الأيام صدقه هو أن الحال الذي انتهى إليه السودان اليوم من حرب شاملة ونذر بالتقسيم والتجزئة هو نتيجة تكاد تكون مباشرة للتقاعس –أو التولي إن شئت– عن نصرة المشروع الديمقراطي الذي تمثل عندئذٍ في الوقوف بحزم مع التوالي السياسي ورفض خرق الدستور وحل البرلمان وإلغاء الحكم الاتحادي والعبث باتفاقية الخرطوم للسلام مع الجنوبيين، ومواجهة عمر البشير وزمرته من قيادة الحركة ودعم الترابي في تلك اللحظة التاريخية. ورغم إني كنت أرى بوضوح أن المساومة في تلك اللحظة ستؤدى حتمًا إلى ترسيخ الديكتاتورية وتحويل الحركة الإسلامية إلى عمالة رخيصة لتمكين حكم الفرد فإن أصدقائي لم يكونوا على ذلك الرأي، فمنذ مذكرة العشرة 1998 اتضح أن مشكلة جيلنا تبلورت ضد قيادة الترابي وغفلت أن الحلفاء الجدد هم مقتل السودان والإسلام.
الجزء الثاني من السؤال بشأن معادلة السلطة وترتيب الأوضاع على مستوى الجغرافية السياسية موصول كذلك بتداعيات ذلك الموقف؛ فالفرصة التي توافرت للحركة الإسلامية خلال (30) عامًا، وبما تملك من تنظيم وخبرة وقيادة، كانت تتيح لها على الأقل نظم مجتمعات السودان كافة في إطار مجتمع سياسي ودولة حديثة، وعندما أصدرت المرسوم الدستوري الثاني عشر في عام 1996 للانتقال إلى الفيدرالية بل منذ أن عقدت مؤتمر أهل السودان وبدلت اسمه بذلك من مؤتمر النظام الأهلي عام 1992، كانت تعبر عن وعي بهذه المشكلة، ولكن تناقض عقيدة الإسلام السياسي مع الديمقراطية حشرها في مأزق تطبيق الحدود والحرب الجهادية؛ فقسمت الجنوب بعد أن انقسمت على نفسها، بل وشرعت في حرب على المواطنين في دارفور، كانت نتيجة حتمية للعبث بالحكم الفيدرالي، ثم تداعت بقية أجزاء السودان تعي ما يحدث حولها وتستعد هي الأخرى للحرب.
ستة أشهر في قلب المعركة المشتعلة بعمق المركز ولم نزل نقارب ما جرى، مداد كثيف سُطر في سبر أكبر حدث منذ استقلال السودان وانفصال الجنوب كيف ترى ما يجري الآن؟ أهو انقلاب فشل فاستحال إلى معركة؟ أم معركة خاطفة بغرض الوثوب إلى أريكة الحكم؟ فاستطال أمدها أم تناقضات المشهد قد بلغت ذروة تفجرها أم ماذا؟
ما حدث هو تجلٍ قبيح لمشروع مشبوه تبلور بالتدريج وهو كذلك نتيجة لتجلٍ آخر حدث أيضًا بالتدريج، يمكن أن نصله إليه بالإجابة السابقة، وهو غياب المرجعية الفكرية والروحية لمشروع الإسلام السياسي في السودان بالمفاصلة وانفجار حرب دارفور في نسختها الثانية، والمفارقة أن النسخة الأولى في 1991 كانت بقيادة قائد في الحركة الإسلامية من ذات جيل الأنتلجنسيا وكانت إنذار مبكر لما نشهده اليوم في الخرطوم ولما شهدناه في دارفور في 2003 وتداعياته المرعبة التي حبست رئيس البلاد بطوق المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية. من ناحية أخرى ورغم جنوح أغلب التفسير والتحليل للظواهر بهوس المؤامرة الأجنبية، فإن المشروع الأجنبي الذي تبلور بالتدريج أغرته حالة الشتات المتخلفة من قصور الدولة السودانية فقرر أن يجمعه ويصنع من شركة فاغنر الأفريقية يغزو بها من يشاء.
ما بين “عنف البادية” و”عنف الدولة” وصراع الهامش والمركز والحديث الكثيف عن “دولة 56″؟ هل المعركة الراهنة تصلح لأن تندرج تحت هذه العناوين أم أنها تظل محض حرب عبثية لا تنطوي على أي معنى حسب ما وصفها قائد الجيش؟ وكيف ترى خطاب المعركة ومعركة الخطاب؟
عنف البادية هو الذي انتصر في المفاصلة عام 1999 وهو الذي يتواصل إلى اليوم، ورغم أن الانقلاب نفسه في 1989 كان عنفًا استهدف ديمقراطيةً هشةً، فإن مزاعم الخطة كانت تشير إلى أنه اضطرار وإثم ينبغي المسارعة إلى التكفير عنه بالعودة إلى الديمقراطية والتعددية، ولكن طريقة أخذ السلطة بالعنف حددت سلوكها العنيف تجاه المعارضة وفقًا لنظرية أنطونيو غرامشي بأن طريقة أخذ السلطة تحدد طبيعة ممارستها وعطلت العودة إلى الديمقراطية حتى بعد (10) أعوام، فالحرب عبثية حسب ما وصفها بحق رئيس مجلس السيادة لأن وقودها سودانيون لمصلحة مشروع غير سوداني تمدد في الفراغ الذي تركه انحسار مشروع الدولة الحديثة الديمقراطية في السودان. نعود إلى الحديث عن “دولة 56” وصراع الهامش والمركز، وهى أسباب أصولية لتفسير ظاهرة الحرب وتلاشي الدولة، ولكن المحددات الكبرى لا تكفي وحدها لفهم الظواهر، كما لا يكفي إيراد التفاصيل وسرد القصة ويجب المزاوجة بين المنهجين لتفكيك الكارثة التي حدثت، خاصةً إن كنا بصدد تصميم خطة للتفاوض وإعادة التأسيس، ففي التفاوض وأنت تبحث عن تسوية يجب أن تتجنب إعادة إنتاج قيادة برأسين، كما أن من بدائه الدولة الحديثة، خاصة الفيدرالية، هو الجيش الواحد وفي الوقت نفسه تريد استيعاب الهامش في معادلة تنسخ مظالم اختلال السلطة والثروة، كما يجب استيعاب المجتمعات قبل السياسية، ممن اطلق عليهم مؤخرًا عرب الشتات وامتداداتهم المستقرة من قديم في السودان، كما لا بد من مخاطبة مخاوف العالم وتطلعات الإقليم ثم القوى التي ترى أنها صنعت ثورة ديسمبر، وهنالك الإسلاميون بمدارسهم المختلفة وتراثهم المهم، وغير ذلك من قضايا التأسيس.
علت نبرة “جيش كرتي” في سياق خطاب المعركة المشتعلة حاليًا، كيف يمكن توصيف العلاقة بين الإسلاميين والجيش سيما أن عناصر مقدرة منهم تنخرط في الدفاع عن معسكرات الجيش وتقدم دماء عزيزة في هذا الصدد؟
الحديث عن جيش كرتي تعبير عن عجز في التحليل سببه كما وصفه مالك بن نبي الاستغراق في عالم الأشخاص والعجز عن ارتياد عالم الأفكار، وكما سبق أن ذكرت أن من أهم مقاتل الإسلام السياسي هو خلو عقيدته من أي مضمون في الاقتصاد السياسي سوى العاطفة الدينية، فعندما يدخل أحد منهم الكلية العسكرية أو الجيش يجد العصبية العسكرية أقوى من عاطفة الجماعة الأولى ولا تناقض عاطفة الدين فيغدو عسكريًا في المرتبة الأولى ثم إسلامويًا في المرتبة الثانية، وربما إذا كان ماركسيًا يتقدم ولاؤه للحزب ولاءه للجيش. صحيح أن التنظيم يحيط بهم، ولكن التنظيم نفسه يصطبغ بالعسكرية ويعبر عنها، وحتى المدنيين الذين يلتحقون بهم يصبحون عسكريين أكثر من العسكر، فإذا لم تغشَ أثينا فمن السهل أن تصبح إسبرطيًا، وقد كانت إزاحة الشيخ الترابي بالقوة في 1999 دليلًا ساطعًا على ذلك. في المقابل، فإنه لا أحد في السودان كان يجهل أن الحرب قائمة، وبالنسبة لقيادة الإسلاميين فإن حربًا ينتصر فيه عدو محلي وعدو إقليمي تقتضي ألا أنتظر لتمسحني من الوجود وأنه ينبغي الاستعداد لها بما يمكن وحتى اختيار اسم البراء بن مالك بوصفه صحابيًا له سيرة ملهمة تشبه من نسميهم اليوم بالاستشهاديين أو الانتحاريين، فقد كان سواحًا في الغزوات إلى أن استشهد، لا أقول ذلك لكي أبرره، ولكن لكي تفسره تفسيرًا سليمًا وتفهمه بما يساعد في الحل، فأيّما ظاهرة اجتماعية ضعيفة إن وصفها الناس بأنها سمينه فستقول آمين، وحتى الإسلاميين أنفسهم يحتاجون إلى أن يفهموا أزمة حركتهم ويساهموا في إصلاحها لتكون حديثة وديمقراطية وتساهم مع الآخرين في إصلاح السودان بدلًا من الاستبعاد والعلاقة الاستئصالية والتفاني في إفناء بعضهم وقد كلف ذلك السودان وما يزال يكلفه. وكما سبق أن ذكرت لبعض الأصدقاء ممن وصفهم البروفيسور عبدالله علي إبراهيم بالإسلاموفوبيا أن القرار الإستراتيجي للشيخ حسن الترابي وربما الوحيد الذي لم ينفذ رغم صدوره عن القيادة الأعلى هو قرار القبول للكلية الحربية بعد التخرج من الجامعة، ولم ينفذ إلى اليوم، وبرر ذلك قائد الجيش الرئيس بأن الإنسان إذا تجاوز من العمر العشرين فلن يصبح عسكريًا في حين أن القرار طبق في كلية الشرطة في اليوم التالي وإلى اليوم، بالطبع عندما صارت المنجزات فردية أسسوا كليات عسكرية فنية تخرج جامعيين انحازوا في وقت الاعتصام إلى زملائهم وتمردوا على مؤسستهم مع آخرين كذلك من النظاميين.
هل ثمة انفصال آخر يلوح في الأفق مع علو نبرة التحيزات الإثنية والتماهي مع مشروعات التجزئة كالحديث عن دولة البحر والنهر؟ هل يمكن أن تتمخض الحرب الدائرة عن انفصال دارفور مثلًا؟ وهل يمكن تدارك الأمر؟
منذ منتصف القرن الماضي كانت هنالك رؤى غربية تعتقد أن السودان دولة أكبر من حكومة واحدة، وقد أدى ذلك النمط من التفكير إلى الحماس لاستقلال الجنوب، ولكن الأمل بدولتين قابلتين للحياة تضاءل باندلاع أزمة دارفور خلال مفاوضات السلام في نيفاشا، ثم بالحرب الأهلية في الجنوب بعد استقلاله، ورغم أنه يبدو غريبًا أن يلجأ بعض الناس إلى الدعوة إلى تجزئة الوطن كلما فشلت النخبة في إدارة التنوع واندلعت حرب أو تنازع أهلي، فإن الحل يكمن في الاجتهاد لمنع التجزئة وليس اللجوء إليها بوصفها حلًا سهلًا لأن الحروب قد تندلع حتى داخل الكيانات المنفصلة مهما صغرت وتكون أكثر وحشيةً كما في رواندا وغيرها، وحسب ما يقول سيغموند فرويد فإن الحل الوحيد الذي يمنع الحرب بين الدول وحتى داخلها هو المصالح المشتركة، فالأمم حتى أكثرها تقدمًا وديمقراطية قد تحمل مشاعر حادة تجاه بعضها تؤدي إلى اندلاع الحروب. والحق أن أحدث المناهج التي تزاوج بين الأسباب الأساسية الكبرى والتفاصيل الدقيقة قد رصدت (19) دولة أفريقية نشبت فيها حرب بعد الاستقلال من الاستعمار بين نجحت (21) دولة أفريقية في الاستقرار بالدولة الوطنية، وخلصت نتائج ذلك البحث إلى أن أهم أسباب فشل الدولة والحرب الأهلية هو محاولة القوى المتنافسة لا سيما الأقوى بالسلطة محاصرة خصمها بتجفيف مصادر قوته، فيلجأ إلى السلاح لمحاربة السلطة المركزية، وأن الدول التي استقرت إنما نجحت بالاستيعاب وليس الحصار والنفي. بالنسبة إلى الحرب الراهنة فهي أقرب شيء إلى تجزئة السودان، ولكن في السياسة لا نجد حكمة تقول فات الأوان (It’s never toolate)، بل ينبغي الإمساك بما تبقى من الدولة بقوة، مثل القوات المسلحة وغيرها من مؤسسات والبناء عليها. هنالك مسألة مهمة أخرى لتماسك ذلك الكيان الذي اسمه السودان والذي اجتمع بقدر تاريخي في عام 1821 وما تزال معظم أجزائه تشعر بأن واحد هو السياسات الثقافية الرامية لبناء الهوية الوطنية الجامعة ولا يكون ذلك إلا بإتاحة فرص متساوية لثقافات السودان كافة وحرية أتم أن تعبر عنها أثقلتها إلى أقصى طاقاتها، كما حدث في دولة شديدة التنوع مثل فرنسا، ولكن ما عرف عبر قرنين بالهوية الفرنسية هو حصيلة رفد الأطراف للثقافة المركزية، إذ عملت الحضارة والحداثة على صهره في بوتقة واحدة كما فرنان بروديل. موضوع آخر مهم في الطريق نحو تأسيس الدولة على أعمدة متينة هو العدالة الانتقالية والعدالة الجنائية وتركيب الصيغة السودانية من ذلك عبر حوار منفتح ومفتوح يساهم فيه الفكر السوداني ولكن بدعم ورعاية أفريقية ودولية.
في رؤية الدعم السريع للحل التي دفعت بها اقتراح تطبيق النظام الفيدرالي غير التماثلي.. إلى أي مدى تمثل صيغ الفيدرالية الديموقراطية حلولًا ناجعة في بلد يعيش وحدة سطحية في تنوع عميق حسب ما أشار حاج حمد؟
كان من المهم أن ينعقد مؤتمر نظام الحكم إبان فترة الحكومة الانتقالية حسب ما نصت على ذلك الوثيقة الدستورية، فمن حسن الحظ أن عقولًا كبيرة ساهمت بأفكار مهمة في فلسفة ونظم الحكم الأنسب للسودان منذ الاستعمار وبعد الاستقلال وجربنا الحكم المحلى ونظام المحافظات التسع ثم نظام الأقاليم الخمسة في عهد جعفر النميري ثم الفيدرالية في عهد الإنقاذ، ولأن من المهم جدًا أن ندرس التاريخ فيجب أن نذكر أن ثورة دارفور في 1982 كانت بسبب تردد النميري في منح دارفور إقليم منفصل عن كردفان ثم تعيين حاكم من خارج الإقليم، فيما لم يفعل ذلك مع بقية الأقاليم، كما أن قيام الحركة الشعبية وظهور جون قرنق ارتبط بتقسيم النميري الجنوب إلى ثلاثة أقاليم وأخيرًا فإن اندلاع تمرد دارفور الأخير 2003 ارتبط بنكوص البشير عن قانون قسمة الموارد وانتخاب الوالي مباشرةً من شعب الولاية. وأظن أني قرأت في ورقة الدعم السريع إشارة إلى سلطات أصيلة للمجتمعات المحلية، ولكن الحقيقة أنه منذ أولى التجارب كانت كل السلطات مفوضة ولم تكن أصيلة إلا مع المرسوم الدستوري الثالث عشر في 1998 الذي أقر الفيدرالية وبسبب ذلك لم يعمر طويلًا، إذ ما لبث أن نسخه البشير وزمرته ونكصوا عنه، كما أن الدعوة إلى نظام فيدرالي غير تماثلي يطرح عدة تحديات سبق أن تحدثت عنها أن المعهود في النظم السياسية هو وجود مستويين للحكم اتحادي وولائي، ولكن منذ مفاوضات دارفور طرح موضوع الإقليم، وتلك إضافة ينبغي بحثها بعمق، ولا بد من تداول يستعرض تلك التجارب ويخرج برؤية. ذلك كله ينبغي أن ينتظم ضمن مقاربة جديدة للحل هذه المرة، فبدلًا من التنازع على مناصب الحكم في فترة الانتقال يجب أن تنصرف القوى السياسي إلى قضايا التأسيس التي لا تستثني أحدًا وعلى رأسها نظام الحكم.
ظلت الطبقة الوسطى عنصرًا رئيسًا في النمو والدمقرطة وإشاعة ثقافة التعايش والسلام.. كيف ترى حالها على اشتداد الحرب الدائرة وما جرى لها من تجريف أتى على كسوبها المتراكمة خلال أجيال؟
مفهوم الطبقة الوسطى في السودان يحتاج إلى زيارة جديدة تعيد تعريفه، خاصةً بعد التحولات التي ستحدثها الحرب، ولا بد أن تعيد تعريفه وفق مفهوم العدالة الاجتماعية الذي ينشد توسيع الطبقة الوسطى لتشمل أكبر فئة ممكنة من السكان، فمنذ حكم مايو (1969- 1985) ومفهوم الطبقة الوسطى وحالة الطبقة نفسها تتعرض لحركة وتحولات، وإذا اعدنا تركيب مفهوم الطبقة عند كارل ماركس مع مفهوم ماكس فبير لتفسير الحالة السودانية فإن المصالح الاقتصادية المشتركة مع الامتيازات الاجتماعية التي ظلت تستأثر بها مجموعات من السكان دون أخرى يقتضي عملًا فكريًا واجتهادًا عمليًا يدفع لتضييق الفوارق وتوفير الكفاية، وليس الكفاف ويصوب ذلك نحو علاقات الإنتاج ونحو التعليم ونحو الإصلاح الديني، كل ذلك يساهم في بسط طبقة وسطى تكون عمود الديمقراطية. بالطبع يصعب الحديث عن تحليل طبقي في مجتمع لا تقود اقتصاده الصناعة، ولذلك لتدعيم الديمقراطية أعتقد أن الأنسب ترسيخ مفهوم المجتمع المدني كذلك بالتنظير والعمل وذلك سيكون أكبر ضامن لتأسيس ديمقراطية راشدة ومستدامة.
السياسة هي الحرب بطريقة أخرى حسب القاعدة الشهيرة، الآن وقد اشتعلت الحرب.. كيف نستعيد السياسة من جديد؟ هل في مقدور العقل السوداني أن ينجز هذه المهمة؟
كما ذكرت فإن المقولة القديمة صحيحة الحرب هي ممارسة السياسة بوسائل أخرى، ولذلك السياسة لم تتوقف ولكننا نريد أن نستعيد السياسة البناءة التي تنفع الوطن ولا تكون عبثًا بل أكثر الأعمال جديةً، أو السياسة كما وصفها جمال محمد أحمد: “السياسة هي النقاش”، وكما كتبت في مقال لي مؤخرًا أننا لفترة طويلة من تاريخنا ظللنا نمارس السياسة بأساليب الحرب مثل الحصار والعزل والإقصاء والاغتيال المعنوي وليس الحوار، والغريب أن العقل السوداني قادر على الحوار والاصطفاف بديلًا للعنف والاستقطاب، أعني جملة عقل النخبة بتجاربه المتعددة وعقول النخبة أفذاذًا قادرين ومبدعين، لكن كما في قول المتنبي ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام، مما يؤكد أن الأزمة أزمة أخلاق كذلك عامة وخاصة، بالطبع هنالك مشكلات من مورثنا الثقافي خاصةً الموصول بالثقافة العربية كما وصفها الأكاديمي الفلسطيني هشام شرابي، فالأخلاق المورثة من ثقافة القهر والتي تمارس المسايرة وتعجز عن المواجهة والتي تساير القطيع وتعجز عن النقد الذاتي والحصيلة الحتمية لذلك في شيوع التحاسد والاغتياب والنميمة، ثم ندرة نماذج المثقف العضوي الذي يقوم قدوة بتجرده ووطنيته.
تبدو المواقف الخارجية ملتبسة على كثير من المراقبين إذ يلوح تناقض ظاهر بين اصطفاف بعض الدول على خلاف مصالحها الحيوية كيف نفهم ذلك؟
فيما يتعلق بالعامل الخارجي هنالك مخطط مشبوه كما ذكرت كانت معالمه واضحة منذ مدة كافية للتصدي له، لكن ذلك لم يحدث. هنالك أيضًا جهات دولية تبحث عن نصير سوداني تظن أن يمثل إلهام ثورة ديسمبر ويكون طليعة لترسيخ القيم الديمقراطية، وهنالك الإسلاموفوبيا الغربية، لكن المهم هو أن نساعد نحن العالم لكي يفهمنا بوضوح ويتعامل معنا بالسوية، فجانب كبير من ارتباك العالم تجاهنا سببه اضطرابنا، ولذلك من المهم أن يكون ضمن قضايا التأسيس وموضوعاته فتح حوار بشأن السياسة الخارجية للسودان لأنه جزءًا من عناصر حسم الهوية السودانية الجامعة هو العلاقة مع الجوار الإقليمي ومع العالم وطبيعة الدوائر المحيطة المحددة لعلاقاتنا الخارجية من أفريقية وعربية وإسلامية ثم الغرب والشرق الجديد والعالم، وبالطبع للعالم مصالحه التي تحدد موقفه تجاهنا، وأحيانًا للحكومات مصالح مؤقته ليست إستراتيجية تناقض مصلحة الشعب والدولة، وعمومًا موضوع العلاقات الخارجية الرسمية والشعبية لبلد ذو جوار كثيف مثل السودان وروابط تاريخ وجغرافيا أكبر من وزارة الخارجية وأحيانًا أكبر من الحكومة.
أشرت ذات مقال إلى تعبير الأجيال المدينية عبر ديسمبر عن تطلعاتها والاستبسال في تحقيق مشروع الانتقال إلى الحكم المدني وكذلك رأيت في الجيل المنتظم في حرب 15 أبريل على غايات أخرى.. هل ثمة رهان جيلي يقف بالضد من فشل النخب أو قل فشل مشروع دولة ما بعد الاستقلال نفسه؟
يعود بنا وصف (الديسمبريين) إلى التراث الروسي كما خلده أدباؤه الكبار أمثال تولستوي الذين ذكروا أولئك النبلاء المستنيرين الذين انتفضوا على القيصر وفشلت ثورتهم، ولكن أفكارها التي كانت طلائع تلقاء المسار الأعمق للتاريخ؛ فألغت رق الأرض أو نظام القنانة وأثرت في أفكار سائر الشرق الأوربي، كذلك تيمنًا بالشهر الذي تبلورت فيه الانتفاضة السودانية المباركة وأفكارها وشعاراتها نحو الحكم المدني والديمقراطية، كنت من أول من أكد أن هذه ثورة وعي وثورة جيل على سائر الأجيال السابقة، وعندما تواجه شباب الثورة الذي يجسد كل أحلام المدينة في الحرية والعدالة والحياة الكريمة مع جيل يمثل كل عنف البادية في ساحة الاعتصام تأملت أن ذلك الديالكتيك ربما أخرج الحي من الميت وأهدى السودان معادلة جديدة، ولكن ما تزال هنالك مراحل لم تكتمل وقع في الطريق إليها هذه الحرب، بعدها الديمقراطية عائدة وراجحة حسب ما قال الإمام الصادق المهدي رحمه الله، فالرهان الجيلي يستصحب ذلك الاصطراع وبالطبع سيكون شاقًا ومكلفًا في بعض مراحله كما يحدث اليوم، ولكن ما أن انفك قيد الكبت والصمت ستقود تلك الحرية إلى خير كثير عبر ما أشرنا إليه من قضايا التأسيس وضرورة التداول المنتظم والمنظم حولها.
كيف ترى الحل.. أهو ممكن في الظرف الراهن؟ هل بالعودة إلى الاتفاق الإطاري الذي فجر التناقضات بحسب مراقبين أم في اجتراح أفق جديد.. وما هي أبرز ملامحه؟
الاتفاق الإطاري ومراحله المتعددة هو تراث آخر مهم في تاريخنا ينبغي أن يستصحب، ولكن لا أتوقع عودة بسيطة وعفوية إلى سياق ما قبل الحرب التي تحملنا بأحداثها الجسام وعبرها إلى مرحلة جديدة تقتضى تفكيرًا جديدًا خارج الصندوق مثل ما نقول هذه الأيام، وأول انتباه هو ما تردد في معظم المبادرات المطروحة في الساحة اليوم من ضرورة الانتقال من الانتقال إلى التأسيس والخروج من دورة حكومة انتقالية تعقبها انتخابات بعد عام وقيام هيئة تأسيسية تشهد صراع الأحزاب الأيدلوجية وتشل الحكم والذي يستصحب التعقيدات التي أشرنا إليها ربما يفتح أفقًا جديدًا.
“الترا سودان”