منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

السفير عبد الله الأزرق يكتب:📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (8)

0

نيروبي (1)

ونحن في أشد حالات العداء مع حركة قرنق في 1993، سكنت وأسرتي مع سلفا كير في مجمعٍ واحد..
حين سكنت لم أكن أعرف هذه الحقيقة. ولكن بعد بضعة أيام وكان يوم أربعاء أتتني سيارة السفارة لتُقلّني في الصباح، وهنا لاحظت أن سيارة واقفة في المبني المجاور عليها لوحة حمراء ومكتوب عليها رقم باللون الأبيض وحروف مختصر حركة التمرد SPLM/A.
عندها عرفت أنني سكنت مع أحد قادة التمرد؛ لأن الحكومة الكينية- في إطار تعاطفها ودعمها للحركة – تمنحهم تلك اللوحات المتميزة.

عند وصولي للسفارة أبلغت ضابط الأمن، والملحق العسكري العقيد – وقتها – محجوب شرفي بما شاهدت. وتوقعت أن يفيداني مع من أسكن ولو بعد بضعة أيام، لكنهما لم يفعلا، ربما لعدم توفر المعلومات لديهما.

في يوم السبت ذهبت وزوجتي لشراء احتياجاتنا من سوبر ماركت (Nako Mat) الذي يرتاده الدبلوماسيون ، ونحن نسدد الحساب لاحظت دخول السفير نجيب الخير يحمل زجاجات فارغة، سلمها لرجل في المدخل وأعطاه هذا خشبة مربعة صغيرة مطلية باللون الأصفر ومكتوب عليها الرقم (1) باللون الأبيض.
بعدها توجه نجيب نحوي، وقال لي متسائلا في استنكار: عبد الله الأزرق؟؟
رغم أنه يعرفني وأعرفه منذ كنت أحضر في نيو يورك بولي تكنك، وكان هو دبلوماسياً ببعثتنا بنيو يورك. فأجبته: نجيب الخير؟؟
وقتها كان نجيب معارضاً للحكومة، وبحكم انتمائه السياسي بعثه حزب الأمة ليمثله في حركة قرنق.. وبحكم تأهيله الدبلوماسي كان معيناً جيداً لحركة التمرد .
بعد ذلك قال لي نجيب: إنت عارف إنك ساكن مع سلفا كير؟؟ بالطبع لم أكن أعرف أن ذلك القائد في المجمع هو سلفا. لكنني قلت له: نعم أعرف، ومن الأحسن أن يرحل سريعاً!!! فرد عليّ قائلاً: حنصفيك!!!
ردت عليه مها، بعد أن ضحكت باستهزاء وقالت له: لهذا جئنا نحن لهنا!!!
وحقيقة لم أتحمل أن يهددني رجل أمام زوجتي. فقبضت على نجيب من عضده وأجبرته أن يخرج معي خارج المتجر.. وفي الخارج تحديته وتفوهت بما لا يليق.. أقول هذا للأمانة.. ولم أتركه إلّا بعد أن أنكر أنه هددني بالتصفية.. رحم الله نجيب الخير.
في الاثنين الذي تلاه التقى موسى علي سليمان، رحمه الله – الذي كان مساعداً لعلي الحاج المناط به ملف الجنوب – ببعض قيادات قرنق مصادفةً في سوق نيروبي.. قالوا لموسى: تقولون إنكم تريدون السلام، وتُسكّنون عبد الله الأزرق في نفس مجمع سلفا كير!!!
قال لهم موسى: نعم أسكنّاه ونُسكنه حَيْثُ نشاء.
الحقيقة أنه ومنذ كنت بالرياض كتب معارضو الحكومة في جريدة الوفد المصرية أنني قاتل ASSASSIN. ويبدو أن تلك الفرية بلغت حركة التمرد. ومع ردي وحديث زوجتي وكلام موسى، أيقنت الحركة أننا ننوي بسلفا شرًّا.
وبالفعل رحلوه من المجمع حتى لا يطاله القاتل عبد الله الأزرق!!!
ويذكرني ذلك الاتهام المريع الباطل، بما روته لي جرزلدا الطيب، طيّب الله ثراها وثرى قريبي عبد الله الطيب.
قالت لي جرزلدا: إن أمها وأباها لم يكونا موافقين على زواج عبد الله بها.. ولكن أمها انصاعت قليلاً جراء إصرارها، وطلبت منها أن تدعوه لمنزلهم لتراه. قالت: وفي الموعد المضروب حضر عبد الله. وكانت أمها تنظر من الشباك، فرأته داخلاً من بوابة المنزل. نظرت إليه والتفتت لجرزلدا قائلة: He looks like a KILLER ، يبدو كالقاتل.
ويا لها من تهمة نكراء!!
وبجانب نجيب الخير أرسل حزب الأمة 23 من شبابه للقتال مع الحركة في الجنوب. وبلغ موسى والزميل محمد الحسن إبراهيم أنهم يعانون من اضطهاد الدينكا لهم. فرغم أنهم يجب أن يُعاملوا “كرفاق سلاح” إلاّ أنهم عاملوهم بعنصرية. ينادونهم بكلمة: “مندكرّو” ويوكلون لهم غسيل ملابس الضباط ونقل الأحمال.
بذل موسى ومحمد الحسن جهداً جهيداً لتهريبهم من معسكرات الحركة، ثم تسفيرهم عبر نيروبي للسودان.

وصلت نيروبي في نوفمبر 1991. كانت نيروبي وقتها مثالاً للانفلات الأمني والجريمة. وفي صباح نفس يوم وصولنا طلبت زوجتي من الخادمة أن تشتري لنا حليباً. طلبت طفلتي أن ترافق الخادمة، لكن الخادمة رفضت أن تدعها ترافقها. وقالت إن الطفلة تلبس أقراطاً ذهبية، وهذا يمكن أن يتسبب في الاعتداء عليها وقطع أذنها للاستيلاء على الأقراط. كان ذلك نذيراً مخيفاً.

وبالفعل وقعت لنا كزملاء حوادث مخيفة. وقبل وصولنا أُنْبِئنا أن سيارة الملحق العسكري سُرقت. وجاءت الأنباء أن السُرّاق عبروا بها الحدود التنزانية، مستغلين وجود اللوحات الدبلوماسية التي تُيسّر عبور حدود دول الجوار. وتعرض عدد من أعضاء الجالية للاعتداءات.
ذات صباح وأنا مستغرقٌ في ملفاتي، جاءني زميل وقال لي: زوجتي خطفوها!!! ظننته مازحاً، فقلت له ضاحكاً: “بختك الله ريّحك”.. وفاجأني بقوله: إنه جاد، وإن الخادمة اتصلت به من منزله، وقالت له: إنه بينما كانت سيارة السفارة 19 (هذا رقم لوحتها وكنا ننطقها ناين طين لكثرة أعطالها)، يخرج بها السائق عبر بوابة المنزل مع زوجته، هجم ثلاثة مسلحون عليهم وأخذوا السيارة بمن فيها.. كان خبراً مزعجاً مخيفاً..
وبحمد الله لم يُصِب زوجة زميلنا الرجل الفاضل شر، وهي سيدة محترمة جداً.
واختطفت عصابة الملحق العسكري المصري، واقتادته في سيارته إلى خارج نيروبي، وهناك جردوه من ملابسه، وتركوه عرياناً وهربوا بالسيارة.

ولم يسلم زميلنا الصديق الدرديري محمد أحمد من فوضى الجريمة في نيروبي، وكان وقتها نائباً للسفير. فقد اختطفته عصابة وهو خارج من مصرف في قلب نيروبي في رابعة النهار واقتادوه لطرف المدينة. ولما لم يجدوا عنده مالاً ضربوه وقرّعوه في خطئه بالتجول دون أن يكون معه مال!!!
حدثت هذه الحادثة بعد مغادرتنا نيروبي.
وقبل وصولنا لنيروبي، وفي 1990، قتل أو اغتيل وزير خارجية كينيا روبرت أوكو بعد خطفه من منزله الريفي، بإطلاق النار على رأسه وحرقه، وقيدت الجريمة ضد مجهول!!!

كانت نيروبي مركزاً استخباراتياً كبيراً.. كل الأجهزة العالمية الفاعلة كانت هناك.. يوجد الموساد والمخابرات البريطانية و CIA.. وكان للأتراك وجود وتنسيق مع المخابرات الكينية، تمخض عنه القبض على عبد الله أوجلان قائد حزب العمال، الذي اعتقل في فبراير 1999 ورحل إلى تركيا حيث حوكم بالإعدام ولايزال في السجن.

وكانت نيروبي مركزاً إعلامياً مهماً.. وكانت بها جمعية المراسلين الأجانب بشرق أفريقيا، التي رأسها الأستاذ عبد الدافع الخطيب، وأصبح أمينها العام لسنوات.

بالطبع كانت نيروبي عاصمة الأمر الواقع de facto لحركة جون قرنق.
والحقيقة أنها كانت منطلَقاً لحركات التمرد الجنوبية السودانية حتى قبل جون قرنق.
فقد اتخذتها حركة أنانيا التي قادها جوزيف لاقو عاصمة بحكم الأمر الواقع.
وفيها التقي السياسي الجنوبي جوزيف أدوهو والذي كان مستشاراً للاقو، بالسفير الإسرائيلي وطلب منه مساعدة حركة لاقو منتصف ستينات القرن العشرين. وتمخض عن ذلك الاتصال ترتيب زيارة لجوزيف لاقو لإسرائيل والتقي رئيسة الوزراء قولدا مائير. ونجم عن الزيارة أن الإسرائيليين أرسلوا فريقاً من الموساد قام بإنشاء أول معسكر نظامي لتدريب متمردي أنانيا (1) في الولاية الاستوائية. ومدوا الحركة بالعتاد والعُدة.

📍السفير عبد الله الأزرق
————————————-
8 أكتوبر 2023

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.