حيدر احمد سليمان طه يكتب: *اربع اشهر من الغربة*
الراحل المقيم عقيد شرطة جاسم عثمان احمد عبد الكريم
– الزمان التاسع من سبتمبر 2023 م
الساعة 12:30 مساءً،،
– اشعار علي مجموعة ( ساهرون ) الاسفيرية علي الواتساب من د. شنان محمد الخليل بازالة رقم ،، شعرت بإنقباض وقلق وتوجس ثم رسالة مقتضبة جدا بعد دقيقة دون فيها الحبيب حسن مصطفي صادق ( هل ولا … ) هنا بلغ التوتر مداه وتملكتني مشاعر من نزاع نفسي مرير ، فقد ارتبطت ازالة الارقام من قوائم مجموعات التواصل هذه الايام العصيبة بالكثير من الهواجس والافكار السوداوية والانباء والأخبار المؤلمة والرسائل المفزعة وتمكنت سطوتها من الإمساك بتلابيب النفس وصارت وحدها دون غيرها من الأخبار وهي التي تقفز سريعا ً إلى الأذهان وتتسيّد وسائل التواصل الاجتماعي ،، ربما لم أكن وحدي من ساوره القلق والشك وعصفت به الظنون ولكن درجنا حين تلقي الأخبار هذه الايام ان ننزع فيها بآمالنا الي الكذب وقد اصبحت هذه الامال مرضية ومطمئنة الي حين .. ان تقتنع بصحة الخبر ثم لنتوهّم في تفاؤل كئيب وتوقّع بائس وامل محبط الحدث الاقل سوءاً عن الخبر نفسه وهذا ما
فعله العزيز امير محجوب بعد احدي عشر دقيقة وينقل الخبر (معلومة عن إصابة العقيد جاسم بطلق ناري في راسه … ) ثم يطلق معها رصاصة الرحمة ويغرس في القلوب نصلاً لا برء او شفاء بعده بل رحيل وافتراق حين اردف في الرسالة .. وسوف يتم دفنه أمام المنزل .. ومع تمام قناعته ينزع ايضا الي التكذيب بعبارة هل من تأكيد ؟ واذا بالراحل د. غازي القصيبي يصرخ معي وبأعلى من صوتي مجاهراً بعد ان قضي الامر الذي لم نكن في حاجة معه ان نستفتي
واااااا جاسمااااه
وضجّ الجرح في كبدي
فسرت بالجرح
لا الوي علي احدِ
يطوف وجهك في روحي فأسأله
بالله قل لي ، أهذي فرقة الابد؟!
فأين نظرته بالحب طافحة
كانما هي بشرى تنشر الرغد
وأين بسمته الحسناء
هل سقطت شمس النهار على ليل من الكمد ؟
نعم ،، لقد توارت عن الكون شمس ضيائه قبل ان تبلغ كبد سمائها في غياب ابدي..
– سبحان من له الدوام.. انا لله وانا اليه راجعون ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم القدير وما اسرع الايام .. يصادف هذا النهار مرور اربع اشهر، علي رحيله .. اكثر من مائة وعشرين يوماً من الغربة التي اتخذت معنيً جديداً ومفهوماً مختلفاً عما عهدناه في تفسيرها وشرح معانيها.. لم تعد هي بذلك المفهوم النمطي التقليدي الذي خبرناه وحوته قواميس ومعاجم اللغة العربية ورسخ في الاذهان واستوعبته العقول ، وانما تحور المعني لتغدو الغربة هي البحث عن الاسماء وجهات الاتصال في ذاكرة الهاتف وضمن مجموعة ساهرون ولا تفتقد الا ذلك الاسم الغائب وفوتوغرافيته الراسخة في القلوب قبل القروب ..
– ثم ينهمر سيل التعازي والنشيج يستصحب في الاذهان سلسلة من الذكريات عن انسان كالملاك ، خلوق تواضع ان يكون بين معشر البشر ليقتحم قلوبهم ويملكها بالمعروف واللطف ويتخلل حناياهم بالمحبة والمودة والاحترام .. ثم تحلق في سموات ذكراه وتطوف بذهنك تلك الابتسامة الوضيئة ويداعب اذنيك ذلك الصوت الودود ثم تغرق في خضم من مكارم الاخلاق وفيض من الذكريات .
– لم يعرف الناس قبل رحيله شمساً تشرق في اوج غروبها ولا نجماً يسطع بعد تمام افوله ويتلألأ في قمة احتجابه وشهاباً يبلغ ذروة توقده ولمعانه وبريقه بعد تشظّيه وتلاشيه ثم زواله واستتاره ( إلاه ) ولم يعهدون ذلك عند غيره ..
أين مني مجلس أنت به فتنة تمت سناءً وسنا
وأنا حب وقلب هائم
وفراش حائر منك دنا
كم بنينا من خيال حولنا ومشينا في طريق مقمر تثب الفرحة فيه قبلنا
وضحكنا ضحك طفلين معا وعدونا فسبقنا ظلنا
– احيانا تراودني مشاعر ان الله كان لطيفاً به ان اختاره الي جواره ليجنبه معايشة الظروف الآنية واهوال هذه الايام وهو الذي نذر نفسه وعلمه وجهده لاشاعة المودة والسلام والمحبة والوداد بين الناس في وقت هم في بالغ الاحتياج لوجوده بينهم ، كم كانت الامال التي وضعها كل من عرفه علي عاتقه عريضة والاحلام عذبة فقد كان رسول محبة وسلام وفوق كل هذا وذاك ، عقلية فذة تنضح بالعلم والمعرفة الا ان ارادته جلّ وعلا ان سمت بروحه من بيننا برصاصات غدر وجبن ونذالة وخيانة وهو يبذل النفس والنفيس لخدمة ورفعة البلاد والعمل علي نهضتها ضمن قوافل الأخيار وكوكبة من ابنائها
وانتبهنا بعد ما زال الرحيق
وافقنا ليت انا لا نفيق
يقظة طاحت باحلام الكري
وتولي الليل والليل صديق فإذا النور نذير طالع
وإذا الفجر مطل كالحريق
وإذا الدنيا كما نعرفها
وإذا الأحلام كل في طريق
.. جااااااسم !! استغفر الله العظيم من قولي .. ايمكن ان يغيبه الموت بهذه العجالة !! ايمكن ان يكون بين لحظة واخري سيرة يتناقلها الأهل والأحباب والأصدقاء والزملاء بعد حياة عامرة بالجهد والصبر والكفاح والأيادي البيضاء التي تمتد دوماً بيضاء بالخير للكافة دون منٍَ أو أذي .
– كان قامةً وقيمةً وقيماً وقمةً ومقاماً ،، تمددت سيرته بالخير والعطاء والشهامة والنبل والكرم وطيب المعشر ونقاء السيرة والسريرة ، رجل تسربل برداء التدين الحق والورع والتقوي والاعراض عن اللغو وساقط القول والحديث ، يشهد له كل من عرفه بأنه كان حييّاً رقيقاً مؤدباً ، مهذباً لطيف المعشر ، حديثه هادئ وينتقي كلماته ويختار عباراته بعناية شديدة وحصافة فائقة ، كان حلو المعشر ، فارط الكرم واسع الحلم والعلم والادب الجم ،، تسابقه ابتسامته العذبة الوضيئة وهي عنوانه قبل ان يهيئ نفسه لاحتضان من تشرف بأن يكون في حضرته او تمتد اياديه للمصافحة.. اتصف بالنبل والشهامة وسعة الصدر .. كانت السماحة منهجاً في تعامله مع كل من يلتقيه ويجالسه ، وكان مقبولاً للكل ، ذا رأي حصيف ونظرة ثاقبة وحكمة وفطانة عززتها تجارب حياتية ثرة وقلب ناصع البياض يسع الجميع .
– رحل جاسم حبيب الجميع ولكنه باقٍ في الوجدان وراسخ في الدواخل وقابع في الحنايا ، برحيله فقدنا منارة سامقة ونبراساً هادياً ومعينا من العلم والمعرفة والاحترام واللطف والمودة .. رجل تفتقده المجتمعات ، كان زينة المجالس .. عهدناه بصفاته الحميدة وسعيه دوماً بالخير ، بأفكاره النيرة وذهنه الوقاد وذكائه الفطري.
– استغفر الله كثيراً وانا اذكر مآثر الراحل المقيم واتساءل .. هل استسلم ذلك القلب النابض بالحب والوداد وكفّ عن النبض لتلك الطلقات الاثمة التي اغتالته خسة ونذالة وغدراً وخيانة ؟ وهل تلاشت تلك البشاشة وذلك النبل الذي يفوق الوصف وتلك العقلية الفذة المفعمة بالافكار النيرة بل وتلك الشهامة والمروءة والصمود والاقدام وحياة حبلى بالاحداث قد اسدل عليها الستار ؟ هل استسلم ذلك الجسد الممتلئ عزة واعتداداً وشموخاً وتلاشت تلك الروح الوثابة امام رصاصات جائرة !! وهل اعتقد مشيعوه انهم يوارون جسدا فارقته الحياة ؟ لا والله .. هم قطعاً يعلمون انهم يوارون تاريخاً ناصعاً من الكد والجلد والمثابرة والكفاح والصمود وحياة ذاخرة بالخير والعطاء والعلم وارساء قواعد القيم الفاضلة والتواضع وعزة النفس والاعتداد بمجتمعه ..
– اننا نعلم ان مرقده الان يضم بين حناياه جسداً طاهراً بل علماً من ابناء السودان الابرار الانقياء ظل طوال حياته يحقق الانجاز تلو الآخر ويسعى بين الناس بالخير والمحبة والجمال والسيرة الطيبة وسمو الاخلاق والترفع عن الصغائر ،، لم يقبروا جسداً طاهراً فارقته الحياة فحسب بل ملحمة رائعة من مكارم الاخلاق .. رجل شكّل صلصاله من مهد الرزانة والوقار والحكمة والحصافة والعلم الوافر وطيب المعشر .. رجل يحسن الاصغاء ويتقن فن الحوار واحسب ان ما بلغه من محبة واحترام وتقدير في القلوب وفي مجتمعه انه كان يسعي بالخير بين الناس وكانت ابتسامته هي عنوانه .
– اللهم اغفر له وارحمه وابدله داراً خيرا من داره واهلاً خيراً من اهله وادخله الجنة بغير حساب واجزه عن الحسنات إحساناً وعن الاساءة عفواً وغفراناً وان كان محسناً فزِد في احسانه وان كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته وانزله منزلاً مباركاً فأنت خير المنزلين في منازل الصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً واجعل قبره روضة من رياض الجنة انك سميع مجيبع الدعاء .
*حيدر احمد سليمان طه*
القاهرة
التاسع من يناير 2024 م