عمر باسان يكتب : *حميدتي ومستنقع الجزيرة* (2/2)
في هذا الجزء الثاني من المقال الذي يحلل تصريحات قائد المليشيا الإرهابية المتمردة الأخيرة في “سودان تريبيون” وغيرها، بحديثه عن أن القوات التي دخلت ولاية الجزيرة لم تستشره في الأمر وأنها قوات متفلتة، نتناول أبعاد هذا التصريح ودلالاته على المشهد العسكري والسياسي في البلاد.
ونقول إن حديث قائد المليشيا الإرهابية المتمردة يمكن قراءته من أكثر من زاوية، بداية من تنصله كما ذكرنا عن المسؤولية الأخلاقية والسياسية لما ارتكبتها قواته، من جرائم وانتهاكات بشعة بحق أهل الجزيرة، بما يندي له الجبين، وكما يقول المثل السوداني “الشينة منكورة”. أما إدعائه بأنها قوات من “الكسابة” تبحث عن المغنم، ويحركها الفزع، فهو مردود عليه، وفيه اعتراف صريح منه بعجز قادته الميدانيين عن لجم هؤلاء المتفلتين، والتحكم في سلوكهم وتصرفاتهم، رغم أنهم جزء لا يتجزأ من القوات الباغية التي تم الاستعانة بها في اجتياح ولاية الجزيرة من المليشيا المتمردة.
ودعونا ننتقل إلى قراءة الميدان العسكري بعد مرور ما يزيد على الأسبوعين من دخول قوات المليشيا المتمردة إلى حاضرة الجزيرة وعاصمتها مدني. مع الإقرار مبتدأ أنه ما كان لهم تحقيق هذا الانتصار العسكري المحدود، دون انسحاب الجيش، وقائد الفرقة العسكرية المرابطة هناك، التي ما تزال طلاسمها خافية. ولا نريد أن نستبق النتائج، ونحن بين يدي التحقيق الذي تجريه القوات المسلحة، ولم ينشر بعد.
توغلت المليشيا المتمردة بعد دخولها مدني، لتصل إلى الكثير من قرى وفرقان الجزيرة التي لم تكن مستعدة لهؤلاء الأوباش. ولكن سرعان ما بدأت القرى والفرقان في تنظيم نفسها، للدفاع عن الأرض والعرض والممتلكات في وجه القوات الباغية، في خطوة أصابت الذعر والهلع المليشيا وأعوانها، ومن ورائهم القوى الإقليمية والدولية، التي عمى الله بصيرتها، وجعل كيدها في نحرها، وتدميرها في تدبيرها.
ومن ناحية اقتصادية وجيوسياسية، فإن ولاية الجزيرة تعتبر من أكبر ولايات السودان مساحة، وسكانا، ومن أكثرها غني وتحضرا قياسا بالكثير من أصقاع البلاد. فما شهدته من نهضة يعود لفترة الانجليز وحكمهم للبلاد، ونشأة مشروع الجزيرة. وبداخلها كل أهل السودان بمختلف مشاربهم وسحناتهم وقبائلهم، في تمازج وطني رفيع. كما كانت الجزيرة قِبلة لكل النازحين من ويلات الحرب في الخرطوم وغيرها، استقبلتهم بكل أريحية كعادة أهلها، واقتسمت معهم المسكن، والمأكل، والمشرب. كما انها تظل قاعدة صناعية للكثير من الصناعات، بخلاف النشاط الزراعي والرعوي والخدمي، الذي ينتظم فيه غالب سكانها. بل كانت بدايات حركة الاستقلال الوطني، كانت انطلاقته من مدني ومؤتمر الخريجين. ولاية بهذا الحجم، وهذا الوعي، وهذا التقدم يصعب السيطرة عليها عسكريا، وسياسيا، ولن تنجح شعارات إسقاط دولة ٥٦، الذين كانوا نواتها وقادتها، ولن تفلح شعارات إسقاط دولة الفلول، وقيام دولة الديمقراطية والحكم المدني، فما رآه أهلها، عيانا بيانا، لن يحتاج لمن يعرفهم بشكل المستقبل حال وصول هؤلاء الأوباش إلى السلطة، على ظهر قحت وأعوانها، وعبر فوهة البندقية.
وبخلاف مدني وما يربطها بالعاصمة من مدن وقرى، ظلت قوات المليشيا المتمردة عاجزة عن التقدم جنوبا، أو شرقا، أو غربا، ولم تفلح في اقتحام أي مدينة أخرى بعدها، بعد أن أعدت تلك عدتها، في ظل مقاومة شعبية انتظمت كافة أرجاء الولاية رافضة القادم الجديد من أوباش الجنجويد وأتباعهم. كما فشلت كل المساعي في استقطاب رموز ولاية الجزيرة وقياداتها إلى صفوف المليشيا المتمردة، إلا من بعض ضعاف النفوس، المنبوذين من أهلهم وذويهم. كما فشلت المليشيا في تنظيم حكم مدني في مواقع سيطرتها، كما تدعي، يقوم مقام الحكومة ويقدم الخدمات والأمن لأهلها. وكيف يكسب الجنجويد ثقة المواطنين، وقد انتهكوا أعراضهم، واستباحوا أموالهم، وشردوهم من ديارهم، وأقلقوا مضاجعهم، وقد شهدنا حالات النزوح الواسع من أهالي مدني الي جوارها القريب والبعيد، الذي لا يزال تحت سيطرة الجيش. فكيف يأمن المواطنون على أنفسهم وأعراضهم ديارهم وممتلكاتهم في مناطق سيطرة الجنجويد و”حاميها حراميها” كما يقول المثل السوداني.
أدرك قائد المليشيا فداحة ما ارتكبه من خطأ، بدخول قواته ولاية الجزيرة، المستنقع الذي سيبتلع كل قواته، ومن شايعه من قحت وأمثالها، بإذن الله تعالى. فالواقع العسكري يقول كيف لهذه القوات الباغية أن تديم سيطرتها على ما احتلته من مناطق بقوة السلاح، وهي تنتشر في كل أصقاع الجزيرة، في هذه المساحة الواسعة؟ ومن أين لها بالعدد الكافي لكي تبسط سيطرتها، وتؤمن خطوط إمدادها؟ وكيف لها أن تنظم أدوات الحكم وتقديم الخدمات؟ وأني لها أن تتقدم عسكريا مجددا كما تدعي، ويشيع إعلامهم؟ وهي التي استعانت بالأمس بمن أسماهم قائدها بالمتفلتين، من غير المؤهلين عسكريا، بل هم في الأصل مجموعة من اللصوص والنهابة والحرامية، الذين لن يكونوا إلا زيادة وبال عليها. وفي ذلك إشارة واضحة لتناقص أعداد الجنجويد منذ بداية الحرب في أبريل الماضي، بما لا يمكن تعويضه، وتراجع الإرادة القتالية للمليشيا وأعدادها، رغم تصوير الأمر بخلاف ذلك.
وفي سياق متصل، ها هو قائد المليشيا يتحدث عن ضرورة التدخل الدولي لإنهاء القتال الدائر، اعترافا منه بعدم قدرته على مواصلة الحرب، أو حسمها عسكريا، واعتقال البرهان كما كان ينادي بذلك أول أيام الحرب. وهاهم تنابلته من قحت وأشياعها يلوحون بتدخل المجتمع الدولي تحت البند السابع، في ظل زيادة وتيرة المقاومة الشعبية، للضغط على البرهان للجلوس إلى مائدة التفاوض مع قائد المليشيا الإرهابية المتمردة، بل ينادون بأن يكونوا جزءا من الاجتماع المنظور، ليعودوا إلى واجهة المشهد، متناسين دورهم القمئ في دعم المليشيا المتمردة ضد أهاليهم وذويهم، وليس ضد الكيزان، كما يدَّعون.
ونقول ردا على ما يزعمه البعض بأن ما حققته قوات المليشيا من انتصارات كفيلة بتحقيق غاياتها، وأنها ماضية في مشروعها في محاربة دولة ٥٦، والقضاء على الفلول، والحكم المدني وغيرها، نقول إن العبرة بالنهايات، فالجيوش تتقدم أحيانا، تتأخر أخرى، وما تزال ثقتنا في الجيش كبيرة لتحقيق الانتصار الكبير والقضاء على المليشيا المتمردة وأعوانها. وأن الجزيرة ستكون المستنقع الذي يبتلعها.
وأعتقد أن قائد المليشيا في مقبل الأيام، ومن باب إبداء حسن النوايا للرأي العام المحلي والدولي، وامتصاص الغضب الشعبي، وتهيئة الأجواء للتفاوض مع البرهان، والأهم إغلاق الباب أمام المقاومة الشعبية، أن يتخذ خطوة كبيرة بإعلانه انسحاب قواته من ولاية الجزيرة، لتحقيق نصر سياسي متوهم، يظن أنه من خلاله سوف يستعيد به بعضا من ثقة الشارع السوداني، ويسمح بعودة قحت وأشياعها مجددا، وهم من تلطخت أياديهم بدماء السودانيين الطاهرة.
نقول إن هذا الانسحاب، إذا تحقق، هو بمثابة خروج آمن لقوات المليشيا التي تشعر ان الأرض تميد تحت أقدمها، إدراكا منها بخطورة موقفها على الأرض، وصعوبة استمرارها في البقاء داخل ولاية الجزيرة، في ظل ارتفاع التكلفة العسكرية والسياسية والأخلاقية.
ويعضد هذا الاتجاه، وفق قراءة عقلانية، ما يجدونه من مقاومة شعبية، يزداد أوارها ساعة بعد ساعة، وتقدم الجيش في عدد من المحاور داخل ولاية الجزيرة، وخارجها، بما يشكل بداية النهاية لهم، بالإضافة لعدم قدرتهم على السيطرة على الأرض وأهلها، بعد أن لفظهم الجميع، فصاروا بلا سند شعبي، ولا قوة عسكرية قادرة على السيطرة على مقاليد الأمور. ويتنامي إلى أسماعنا قيام بعد قيادات الجنجويد بتسليح ذويهم ضد قوات المليشيا الغازية، في ظل عدم قدرتهم في السيطرة على منسوبيها.
ولن نتفاجأ في مقبل الأيام بأن يتسرب إلينا خبر قيام بعض الوسطاء ومخاطبتهم للبرهان، ومحاولة بيع انسحاب قوات المليشيا من ولاية الجزيرة، تمهيدا للقائه بقائد المليشيا، في محاولة يائسة منهم لعزله عن سنده الشعبي، وإيقاف عجلة المقاومة الشعبية أو إبطاءها، بحجة إبعاده عن الإسلاميين، الذين يتولون كِبَر الدعوة للمقاومة الشعبية، من وجهة نظرهم، وإيقاف ما أسموه “تجييش الشعب”، تخوفا من “الحرب الأهلية” كما يزعمون، رافضين المبدأ الذي أقرته جميع الشرائع والقوانين، وهو مبدأ حق الدفاع عن النفس، والأرض والعرض، والممتلكات، في وجه القوات الباغية، التي صارت معركتها مع المواطن، وليس مع الجيش كما يدَّعون.
لقد فات على هؤلاء جميعا، ومن يقف وراءهم من دوائر الاستكبار أن الأمر صار الآن بيد أهل السودان، بعيدا عن أي وصايا من أي جهة كانت، حتى يتم دحر القوات الباغية من المليشيا المتمردة وأعوانهم من ولاية الجزيرة، وجميع أصقاع البلاد، في القريب بإذن الله تعالى.