د. ياسر محجوب الحسين يكتب: *مبعوث أمريكي جديد لمخطط قديم*
أمواج ناعمة
في كل العقود والأزمان الماضية وكذلك اللاحقة، وفي ظل مختلف أنظمة الحكم من اليمين إلى اليسار، ظلت الأهداف الأمريكية تجاه السودان وكثير من الدول ذات السمات المتماثلة واحدة لا تتغير وتتلخص في إضعاف السودان خدمة لإستراتيجية «أمن إسرائيل» التي تقوم على القضاء على كل عناصر القوة في الأمة العربية والاسلامية. فضلا عن ضمان السيطرة على ثروات السودان وابعاد روسيا والصين عنها واستغلالها عند الحاجة إليها عاجلا أو آجلا. وما يقع فيه السياسيون في السودان على وجه التحديد أنهم يعتقدون بأنهم قادرون على اللعب مع واشنطن في هامش سياستها القائمة والمبنية على المصالح، والاجتهاد في التقليل من تضارب المصالح. غير أن الأمر أكبر من كونه تضارب مصالح، إذ إن مصالح واشنطن في تفكيك السودان ومحوه من الخارطة وتحويله إلى دويلات 5 أو أكثر. وعليه فليس هناك أصلا هامش يمكن اللعب فيه إلا إذا تماهى شخص مع أهدافها تماما.
ومما لاشك فيه أن السودان يحتل مكانة محورية في التفكير الإستراتيجي الأمريكي بالنظر إلى موقعه الجغرافي، وموارده الاقتصادية المتعددة، بما في ذلك مخزونه من الثروات النفطية والمعدنية لا سيما اليورانيوم، فضلا عن امتلاكه مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ومصادر متنوعة من الموارد المائية. ومن المؤكد أن السودان يقع في قلب أتون الصراع الاستراتيجي الدولي، وهو صراع يدور حول الطاقة والمياه والأراضي الزراعية والموقع الإستراتيجي. وكل هذه الموصفات تؤهله ليكون قوة عظمى تهدد إسرائيل بالدرجة الأولى وتمنع واشنطن نفسها من سرقة هذه الثروات وتجييرها لصالحها بالكامل.
نهاية فبراير الماضي أعلنت واشنطن عن تعيين مبعوث خاص من قبلها إلى السودان وذكر تصريح أمريكا رسميا أن المبعوث سيقوم في إطار منصبه بتنسيق السياسة الأمريكية بشأن السودان وتعزيز جهودها الرامية إلى إنهاء الأعمال العدائية وضمان وصول المساعدات الإنسانية بلا عوائق ودعم الشعب السوداني في سعيه إلى تحقيق طموحاته بالحرية والسلام والعدالة. ونوه توم بيرييلو في أول إفادة صحيفة له بأن حجم الأزمة في السودان لم يلق انتباها دوليا أو إعلاميا، سواء كان ذلك من الصحافة الغربية، أو الأفريقية أو العربية أو غيرها. بيد أنه مضى يطعن في ظل الفيل عوضا عن طعن الفيل نفسه، فلم يسم الأشياء بأسمائها، حين أقر بأن تداعيات الحرب في السودان شملت علامات المجاعة في مختلف أنحاء البلاد. وأنه سمع عن فظائع مروعة، ضد النساء والأطفال، وأعمال تجنيد قسري وحتى عبودية. فرغم أن تقارير أمريكية وصحفية ورسمية وأممية كانت قد أشارت إلى ذلك، لكنه قال «سمع» في محاولة لتجنب الإقرار الكامل ومن ثم الحديث عن الفاعل، الذي تود الإدارة الأمريكية أن يظل مجهولا وتتفرق جرائمه بين أطراف الصراع. وأضاف مشككا في انتصارات الجيش السوداني على متمردي مليشيا الدعم السريع بقوله: «على أي شخص اعتقد أن الطريق ممهد لأي من الطرفين لتحقيق انتصار واضح، أن يدرك بوضوح تام في هذه المرحلة أن الوضع ليس كذلك».
فالولايات المتحدة لا تريد انتصارا للجيش السوداني لأن ذلك يقف ضد هدفها الاستراتيجي تفكيك البلاد شذرا مذرا، وفي ذات الوقت تريد أن تنافق وتتجنب الاحراج إذا ما وقفت علنا مع القوات المتمردة بسبب جرائمها ضد الإنسانية التي سارت بها رياح الحقيقة الدامغة. ويتحدث عن استئناف محادثات منبر جدة التي رعتها بلاده شراكة مع السعودية، لكنه يتجنب ذكر حقيقة أن فشلها كان بسبب رفض التمرد تنفيذ ما اتفق عليه وهو خروج عناصره من بيوت المواطنين والمستشفيات وجميع الأعيان المدنية والتي ما زال يحتلها إلا تلك التي أجبر على الهروب منها في المناطق التي أعاد الجيش سيطرته عليها كمدينة أمدرمان الضلع الغربي لعاصمة البلاد الخرطوم.
وربما لا تتحرج واشنطن من دعم ما تسميه بالقوى المدنية وهي مجموعة أقلية سمت نفسها (قحت) قبل أن تجدد جلدها وتسمي نفسها (تقدم) وهي تمثل الذراع السياسي للتمرد وكانت سببا في دفع المليشيا للقيام بمغامرتها في منتصف ابريل الماضي ظنا منها أن دباباتها ستحملهم إلى كراسي الحكم ومن ثم يتمكن هذا التحالف الآثم من تفكيك الجيش القومي واحلال المليشيا محله. وفي محاولة يائسة نصبت المليشيا بتنسيق ودعم من ذراعها السياسي (تقدم) ما اسمته بإدارة مدنية في حاضرة ولاية الجزيرة. واستهدفت رفع الروح المعنوية المنهارة لعناصر المليشيا التي ظلت تتجرع كؤوس الهزيمة يوما بعد يوم من قوات الجيش، خاصة بعد اخفاقها في تحقيق ذلك عبر المغامرات العسكرية بعد معركة الاذاعة. والمدهش أنه كيف تستطيع هذه المليشيا إدارة ولاية بمساحتها أكثر من ٢٧ ألف كيلو متر مربع ويسكنها أكثر من ٥ ملايين نسمة، وهي لم تستطع تشغيل الإذاعة القومية رغم احتلالها لها لما يقرب من العام؟. هذا هو المشروع الأمريكي بعينه والهادف إلى محو الدولة السودانية بوضعيتها الجيوسياسية الحالية من خارطة دول العالم. وواشنطن هي ذاتها الدولة التي تساند اليوم الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة وتبررها وتبرئ اسرائيل فيها من ارتكاب أية جرائم حرب وتفصح عن مواقف باهتة ونفاقية عندما تحاصر بجرائم إسرائيل في غزة.
ولعل واشنطن اليوم مستاءة من تأخر مخططها، بفضل الإرادة الوطنية السودانية التي يحرسها جيش قوي أمين على أمن وسلامة الوطن؛ ففي العام 2007 أفصح الجنرال الأمريكي المتقاعد ويسلي كلارك الذي شعاره «عندما لا تمتلك سوى المطرقة فإنك سترى جميع الأشياء حولك مسامير»، عن مخططهم في نادي الكومنولث في كاليفورنيا في منشور بعنوان «حان وقت القيادة» باسم الواجب والشرف والوطن، وروي فيه كيف أن مسؤولا في هيئة الأركان في عام 2001 كشف عن مخطط استراتيجي سري لوزارة الدفاع الأمريكية لمهاجمة وتدمير 7 دول في غضون 5 سنوات. وأوضح أن الدول المقصودة هي العراق وسوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وإيران.