صهيب حامد يكتب.. آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!! ؟. (١-١٢)
صهيب حامد يكتب..
آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!! ؟. (١-١٢)
هل كان للإصلاح الذي قام به المعتزلة في القرن الثاني الهجري دور في الإعتراف بحقوق العقل في التفحص الحر لمفهوم النص؟. نعم.. فلقد إستطاعوا زعزعة الأستاذية العقائدية للمذهب الأشعري دون الخروج من الإطار الخاص بالوحي. إذن وما المانع من الإعتراف بحق ممارسة العقل السوداني لصلاحياته في نقد الإستاذية الإجتماعية للمركزية العروبية في السودان دون الخروج من الإطار الوجودي لمفهوم الوطن الواحد؟. خصوصا وأن من ضمن ما هشمه الجنحويد إلى جانب ما هشموه من حرث ونسل وأبنية وصروح وآثار تاريخية وأراشيف نادرة ، قد هشموا كثور في مستودع الخزف قاعدة الحكم التي كانوا يتشاركونها مع المركز العروبي النيلي مثلهم مثل صاروخ فضائي يدمر القاعدة التي ينطلق منها فيتركها أثرا بعد عين. لقد إكتشفت حواضن الجنحويد بعد تعرفها على المركز الخليجي وإحتكاكها به إبان حرب اليمن منذ العام ٢٠١٦ أن هذا الأخير أكثر أصالة في المضمار العروبي من شركائهم في المركز العروبي السوداني ، كما إكتشفوا أن المركز الخليجي منطقا وموضوعا يمثل مركزالثقل العروبي وأن شركائهم السابقين يقعون لدى طرف هذا الثقل وهم الذين سئموا (أي الجنحويد) أن يكونوا طرفا لمركز يعتقدون أنهم أكثر عروبة منه وهي دوامة عاشوها منذ الإستقلال والي اليوم. فالاوجب إن صرت كلب صيد فلتكن كلبا دلماسيا مترفا لسيد متلاف بدلا من أن تكون كلب راع تمنح يوم وتمنع أيام !!!. إذن هل إكتشفنا لتوّنا أننا أصبحنا كنملة أحبت جملا فقادته إلى بيتها وحين حاول الدخول حطّمه عليها ، وكذلك هو حال الهويات الوطنية إن صارت أكبر من مقاس الوطن فسوف يستظل بها سرّاق الهويات العابرة للحدود، كسحابة تستجمعها لزرعك فتمطر في زرع جارك وانتم لها ناظرون!!!.
إن السودان الحالي هو نتاج إستدماج محورين إجتماعيين سياسيين منذ العام ١٨٧٤ حين ضم الزبير ود رحمة دارفور للسودان التركي.. محور الفونج الممتد على طول الشريط النيلي للسودان الحالي منذ ١٥٠٤ إنطلاقا من سنار ، ومحور الفور الذي يشمل دارفور الحالية والتي تأسست في ١٦٤٠م. إذن بعد الإستدماج ظهر السودان الذي نعرفه اليوم. ولكن من يد فلقد سيطرت القوى الإجتماعية لمحور الفونج (وهي القوى التي تمثل المركز العروبي) على مجال السلطة والسياسة في المراحل المختلفة للدولة السودانية (عدا المهدية) َوهو الأمر الذي إستمر إلى يوم الناس هذا. ولكي نتمكن من سبر وتتبع عملية ممارسة السياسة والسلطة في بلادنا توجب علينا السير في حقل من الألغام إذ يعاني منهج كتابة تاريخ الممالك الوسيطة في السودان من مأزق بالغ لإعتماده على المصادر الشفاهية التي نقلت للأجيال الحديثة من السودانيين ما دار في ثنايا الثلاثة قرون التي عاشتهما السلطنتان (الفور والفونج) ، إذ لم تتجاوز هذه الروايات سوى أن تكون وعاءا إسطوريا لإسقاط قصص البطولة والشرف والأرومة لرواتها أو أسلافهم ، فليس من مصادر سودانية مكتوبة لهذه الحقبة إلا كتابي الطبقات (طبقات ود ضيف الله) و (تاريخ سنار) أو ما يعرف بمخطوطة كاتب الشونة (أحمد بن محمد أبو علي) والذي عاش في العهد التركي. ظهر إبتداءا من ستينيات القرن الماضي تيار جديد في دراسة (السودانيات) إنطلاقا من جامعة الخرطوم، وهو إهتمام كان على رأسه أكاديميون أجانب عملوا هناك منهم جاي إسبولينق وبروفسير دالي ود. تيم نبلوك ود.هولت وأوفاهي ويمكن إضافة بروفسير يوسف فضل للقائمة. وعبر النبش الذي مارسه هؤلاء برزت مصادر غاية في الأهمية تغافلتها المدرسة السابقة لممالك العصر الوسيط في السودان التي إرتادها مكي شبيكة ومن قبله المصري محمد عوض محمد. هنا تمت الترجمة للعربية أو إعادة طباعة كتب الرحالة الألمان والأمريكان والإنجليز والفرنسيين والروس والإيطاليين والمبشرين الفرانسسيكان والجزويت من أمثال داؤود روبيني وكايو وبونسيه وجيمس بروس وثيودوركرومب وجون لويس بيركهارت وناختقال وإليساندرو تريوليزي الي جانب الرحالة التركي ألبا شلبي ومحمد بن عمر التونسي. عبر ذلك برز الهرم الضخم من المادة التاريخية التي أجْلت عديد الجوانب الخفية في تاريخ هذه الممالك خاصة الفونج والفور.
في محاضرة شهيرة قبل خمسة أعوام في جامعة هارفارد قال المفكر السنغافوري من أصول هندية المعروف بروفسير كيشور مهبوباني أن ما يخشى منه الغرب بخصوص الصين هو الحزب الشيوعي المعرف هناك بمختصره (CCP) أي (Chinese communist party) ،ويستطرد محبوباني أن ما فات على الغرب هو أن هذا الحزب قد صار يمثل أكثر من ذلك بعكس وضعه إبان الثورة الثقافية في الستينيات حين كانت النخبة الشيوعية في الصين آنذاك تعد الإرث الحضاري والثقافي الصيني كعدو للتطور صوب الشيوعية فدمّر الحرس الأحمر النصب الثقافية والمعالم الحضارية لعهد السلالات السابقة مثل تشينغ ومينغ ويوان وتانج َوغيرها، ولكن منذ ١٩٧٨ تغير مسار الصين على يد دينق شياو بينغ الذي حوّل الحزب الشيوعي كمندوب لتحقيق الهوية الصينية وممثل لحضارتها التي عمرت في تاريخ متصل ومكتوب لما يقرب إلي ٧ الف سنة. يقول مهبوباني أي أن هذا المختصر (CCP) قد صار يعني (chinese civilization party) بالعربية حزب الحضارة الصينية بدلا عن الحزب الشيوعي الصيني. وكذلك نحن في السودان فحين نتحدث عن الإسلام والعروبة يتوجب أن نتفهم أي معنى نتقصد وأي رهانات نعنيها بالعروبة والإسلام في فضائنا الحضاري والثقافي ، وقطعا ما من معنى جوهراني واحد لهذين المفهومين يمكن تطبيقه علي إندونيسيا كبلد مسلم (مثلا) وكذلك بنفس الطريقة على ماليزيا وبنفس الطريقة على مصر وبنفس الطريقة على نيجيريا وهكذا إلى آخره. فالإسلام والعروبة كقيمة لهما إسقاطات مختلفة بإختلاف البيئة الثقافية والحضارية التي تحتويهما، فالعلوم الإنسانية الحديثة في تطورها تعلمنا الكثير عن مكر الشعوب وكيفية توظيفها للقيم والأفكار والأديان في صراعاتها وجدلها الداخلي أو لتجاوز إشكالياتها التاريخية. وكذلك فإن مفهومتي العروبة والإسلام في السودان قد مرتا بالكثافة الوجودية لخصوصيتنا التي لم تتركهما في نصاعتهما التدشينية الأولي (Any more). بالقطع لقد تم إستخدام كل من الإسلام والعروبة على طوال تاريخنا منذ دخولهما السودان ك(أدلوجات) في يد بعض القوى الإجتماعية للتوظيف السياسي والإجتماعي ضد قوى إجتماعية أخرى وكل ذلك في رهانات السيطرة على السلطة بأشكالها المختلفة سياسيا وإجتماعيا وروحيا.
لذا فإن هذه السلسلة تطمح بالحق والتقوى والقسطاس لتتبع تاريخ التوظيف الآيديولوجي لمفهومة العروبة من قبل بعض القوي الإجتماعية ولأي مدى نجحت في ذلك؟ ، ومن ثم ما هي المضاعفات السياسية والاجتماعية لهذه الحرب الدائرة اليوم في بلادنا وكيف أدت لتشظي قاعدة الحكم التي شكلها المركز العروبي النيلي بالشراكة مع المكون الرعوي العروبي في الأطراف منذ الاستقلال والي اندلاع هذه الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ؟. وقبل ذلك فلنتفق على معنى لمصطلح (الآيديولوجية) ،وبالطبع هو مصطح مشكل (problematique) إبتداءا من تعريفه بالوعي الخاطئ لدى هيجل أو الوعي الزماني للرؤية المعرفية المحضة (Temporal) عند آخرين، ولكننا هنا نستخدمه بمعنى متفق حوله وهو إستخدام الفكر المحض ك (مدية) أو سلاح في الصراع السياسي والإجتماعي لتحقيق أهداف المجموعات التي تستخدمه أو توظفه. مثلا الآيديولوجية المعتزلية هي الإسلام محورا كما يراه المعتزلة وليس الإسلام الحق. إذن من هنا سوف ننطلق لنبدأ حفرياتنا لتشمل ممالك السودان الوسيط (الفونج والفور) لنعلم كيف تم إستخدام مفهومة العروبة لدىهما مرورا بالحكم التركي وإلي المهدية. ومن ثم ندلف لنعلم كيف إستخدمها الحكم الثنائي، وإي معنى إتخذته (أي مفهومة العروبة) في مفهوم الحركة الوطنية في السودان من ما قبل الاستقلال وإلى اليوم. وما هي علاقة ذلك بالنتيجة الكائنة بين أيدينا في هذه اللحظة ونحن كسودانيين محاصرين وسط قعقعة البنادق.. كي نعلم هل كنا ضمن كل ذلك ضحايا أم جناة!!!..نواصل