منصة السودان الأولى
التواصل الاجتماعي

من أعلي المنصة ياسر الفادني يكتب:  *أهديك عيوني عشان أستريح…. الدنيا بعدك مابتسر*

0

من أعلي المنصة

ياسر الفادني يكتب:

 

*أهديك عيوني عشان أستريح…. الدنيا بعدك مابتسر*

تفيض كلمات أغنية إلى مسافرة للشاعر عثمان خالد بشجن مترف، يختلط فيه الحزن العميق بالحب المتقد، بينما أداها بصوته الشجي الفنان الراحل حمد الريح، فصارت بصمة خالدة في وجدان المستمع السوداني، الأغنية ليست مجرد سرد لمشاعر الفقد أو الاشتياق، وإنما هي لوحة فنية متكاملة من المفردات العاطفية والصور الشعرية التي تجعل الألم جميلاً، والحنين لذيذًا، والسفر أكثر وجعًا من الموت نفسه

اللغة الشعرية التي انتقاها عثمان خالد ليست تقليدية، بل هي مزيج من التصوير العميق والاستعارات الأخّاذة، حيث يختزل غياب الحبيب في صورة قاتلة تفتك بالقلب “يا قلبي يا مقتول كمد”، ويجعل الشوق كائنًا حيًا يحترق “والشوق يتقد”، بينما يعيد صياغة معنى الجمال في تفاصيل الحبيب، “في شكلو زي نص القمر مبتل مثير”، وكأنما يقطر بهاءً وعذوبة. لم يكن الشاعر أسيرًا لصور مباشرة أو مكرورة، بل أبدع في رسم تجسيد شعوري يعبر عن الحنين بأسلوب مدهش، حيث صوّر الوداع وكأنه غصة لا تحتمل ..كيف الوداع لامن يحين وقت السفر

لحن هذه الاغنيه اعتمد على سلالم موسيقية حالمة، تتأرجح بين مقامات الحزن والحنين، فتبدأ الألحان هادئة وكأنها تمهد للسفر الذي سيتحول إلى وجع، ثم تتصاعد تدريجيًا مع تفجر الأشواق، التوزيع الموسيقي كان متناغمًا مع إحساس الكلمات، فلم يكن هناك تكلف في اللحن، بل اتسم بالسلاسة والانسيابية، مما زاد من عمق التأثير العاطفي الذي تحمله الأغنية

حمد الريح، بصوته الذي يحمل دفء السودان كله، غنّى هذه الأغنية بأسلوبه الفريد الذي يمزج بين الأسلوب المدرسي التقليدي في الأداء الغنائي السوداني والنزعة التجديدية التي ميزت تجربته ، لم يكن مجرد مؤدٍّ، بل عاش الكلمات كأنها تسكن روحه، فتدفقت الأحاسيس من صوته كأنه هو من كتبها ، اعتمد على التلوين الصوتي بإحساس عالٍ، إذ كان صوته يرتفع مع ذروة الشوق وينخفض عند مواطن الانكسار، مما جعل المستمع يشعر وكأنه يعيش القصة بنفسه، لا مجرد مستمع لكلمات مغناة

الشاعر عثمان خالد كان من رواد المدرسة الرومانسية في الشعر الغنائي السوداني، وهو لم يقتصر على التعبير عن الحب بأسلوب نمطي، بل كان يستنطق المشاعر في قالب فلسفي عميق، يجعل من الحب شيئًا أسمى من العشق العابر، ويجعل الفراق أكثر وجعًا من الموت، لغته كانت نضرة، تعتمد على التشبيهات غير التقليدية والاستعارات المشحونة بالصور الحسية، حيث لا يصف الجمال بالصفات العادية، بل يجعله مرئيًا وملموسًا عبر استعارات مذهلة “من لطفو من دله الحبيب… من لونه من كرز المغيب”.

العلاقة بين الشاعر والمغني في هذه الأغنية لم تكن مجرد تعاون عابر بين كاتب كلمات ومؤدٍّ، بل كانت حالة من التزاوج الفني بين إحساسين يتوحدان ليخرجا عملًا خالدًا. كان عثمان خالد شاعرًا يكتب بروح المغني، وكان حمد الريح مغنيًا يؤدي بروح الشاعر، فامتزج الإحساس بالكلمة، وانصهرت الألحان مع الأداء ليخرج عمل يجسد أعلى درجات الانسجام الفني. هذا التوافق خلق حالة نادرة من الجمال في الأغنية، حيث لم تكن الكلمات منفصلة عن اللحن أو الأداء، بل كانت كل العناصر متحدة في سيمفونية وجدانية رائعة.

إني من منصتي أنصت …حيث استمع بحب …. لهذا الدويتو بين شاعر رومانسي ومغنٍّ صاحب إحساس متفرد يمكن تصنيفه بأنه لقاء بين اللغة الموسيقية واللغة العاطفية، حيث لم تكن الأغنية مجرد سرد لمشاعر الحب والحنين، بل كانت تجربة شعورية متكاملة، تعبر عن الألم بلذة، وتصور الغياب بروعة، وتخلّد الحبيب المسافر كأنه حاضر لا يغيب. في النهاية، هذه الأغنية ليست مجرد عمل فني، بل هي ذكرى عاطفية في ذاكرة كل من مر بتجربة الفقد والاشتياق، وكل من عشق حتى آخر حدود الحنين، (دا الغنا ولا بلاش) !.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.