د. المعز إبراهيم الهادى يكتب : *من أين نبدأ..؟ وكيف..؟*
د. المعز إبراهيم الهادى يكتب :
*من أين نبدأ..؟ وكيف..؟*
د. المعز إبراهيم الهادى
المحاضر – سابقاً – في كلية القانون بجامعة الخرطوم
إن لجنة دستور السودان التي تم تشكيلها عام 1956 برئاسة القاضي بابكر عوض الله رئيس مجلس النواب هي من بين أهم أسباب فشل السودان..
لو راعَى أعضاء هذه اللجنة الحكمة ، واتسموا ببعد النظر ، وكانوا على درجة من اليقظة ، لربما وفّروا على البلاد السبعين سنة التي فاتت من عمرها ، وأهدرت فيها مواردها في حروب مجنونة ، توارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل ، وعمّت فيها الأحزان ، وكثرت فيها الفوضى ، وانتشرت فيها الكراهية والعنصرية ، وانتهت بفصل جنوب السودان ، وبما نحن فيه الآن من بؤس وتردّي وشقاق..
العجيب أن أعضاء اللجنة خافوا من إقرار الفيدرالية لجنوب السودان بحجة أنها ستؤدي إلى انفصاله ، وما دروا أن منعها هو ما سيؤدي لانفصاله..
والمحيّر هو أن خيالهم لم يتسع لتصوّر سودان جديد ، خارج من عباءة المستعمر ، ناهض بسواعد بنيه – بإختلاف سحناتهم وعقائدهم وخلفياتهم – فيه يعيش أهل الشمال في جنوب الوادي ، وفيه يمتزج أهل الشرق مع غرب الوادي ، وفيه تستوعب الدولة الوليدة أبناءها وبناتها في إنسجام بالحسنى واتفاق بينهم وتواؤم ، لا بإستثارة نعراتهم وبث فرقتهم وتحريشهم ضد بعضهم..
لو جال مثل هذا التصور في خاطر أعضاء اللجنة وفكروا فيه لكانوا وجدوا الفيدرالية خيراً من المركزية ، ولغيّروا من فهمهم بأنها ستؤدي للإنفصال إلى فهم مغاير بأنها ربما تقود إلى النهضة ورتق نسيج المجتمع وإئتلاف مكوناته ، ولربما أغرى ذلك بقية أقاليم البلاد لتنفك من قبضة المركز وبالتالي تنجح البلاد في منع تكريس أنظمة سلطوية متحكمة ، وفي هذه الحالة تتنافس الأقاليم فيما بينها من أجل النهضة الشاملة فتُخرج البلاد أحسن ما فيها وتنشغل بما يفيدها..
إن استمرار النخبة الشمالية – عروبية كانت ام يسارية ام إسلامية – في (قفل) الجنوب ، أدّى إلى إحساس أهله بالغبن والقهر اللذان فجّرا غضبتهم الأولى (أنيانيا) – والتي استمرت ثم توقفت ثم استمرت لمدى خمسين سنة – حتى توقيع السلام الذي مهره الدم ثم الإنفصال الذي مهره التآمر..
والمخزي أنه وبدل أن تجلس الحكومة المركزية لسماع شكاياتهم ومعاينة إشكالاتهم ومراعاة حقوقهم ، كرهت الجلوس إليهم ولعنت من تمرّدوا منهم ثم صبّت فيهم جام غضبها وحميمها ، ثم فرّقت بينهم لتلتهمهم فرداً فرداً وقبيلة قبيلة ، ذلك منذ عهد اللواء حسن بشير نصر (1958 – 1964) وإلى عهد الفريق حسان عبد الرحمن (1993 – 1998) ومن أتي بينهما.
لم يخمد لظى حرب الجنوب الاّ بعدما ذهب علي عثمان محمد طه إلى نيفاشا عام 2005 وجلس إلى وزير الخارجية الأميركي كولن باول مؤدباً مبتسماً صاغراً يهز رأسه بالموافقة وهو يُملي عليه شروط السلام مع الحركة الشعبية (لتحرير) السودان ، وكانت محصّلة السلام الطبيعية هي الإنفصال ، فلا توجد وحدة جاذبة بعد هلاك ورزيّة الاّ في نفوس موهومين..
فوصل الجنوبيون بالسلام إلى ما لم يصلوا إليه بالحرب ، ليس بسبب رغبتهم في القطيعة ولكن بسبب غدر النخبة الشمالية بهم وتطاولها عليهم واستصغارها لهم وتسفيهها لأحلامهم..
وقصة (قفل) دارفور ليعبث بها الجنجويد (في نسختيه الأولى والثانية) لإضعاف سكانها وإسكات أصواتهم ووأد حجتهم هي نفسها نفس قصة جنوب السودان..
وكذلك بوادر ما بدأ من تذمر في الشرق..
وكذلك حمل أهل البطانة سلاحهم ولبسهم درعهم..
الكل حملوا السلاح لأن سلطة المركز لم تجلب السلام ، والكل طلبوا الإنعتاق – ولو بالإنفصال – وحرروا دعاوى مختلفة بعضها صحيح وبعضها مُلفّق ، لكن أهمها على الإطلاق هو التهميش..
والحقيقة المُرة التي يجب الاّ يتجادل فيها اثنان هي أننا كلنا في السودان مهمّشون..
والحقيقة الثانية التي يجب أن نعترف بها هي أن دركات هذا التهميش مختلفة بحسب العنصر والمنطقة ، فالمهمّش في الجزيرة مثلاً ليس كالمهمّش في دارفور..
والحقيقة الثالثة هي أن التهميش لا يتعلق بسوء بُنية البلاد التحتية فحسب ، ولا بفساد مظلة التأسيس فحسب ، بل بما سببه حملة الأقلام وصفوة الأمة ونخبة أبناءها وكُتّاب دساتيرها من زرع للفساد في النفوس الطيبة الكريمة البسيطة المتسامحة..
وسبب ذلك هو أن الآباء المؤسسين لم يكونوا آباءً في الحقيقة للأمة ، ولم يكونوا مؤسسين ، كانوا رهط أفندية ما راعوا حرمة البلاد ، وما كانوا مستقلين بأفكارهم من أجل الوطن ، وما كانت رؤاهم متسقة مع بناء الدولة ، لم يفهموا أحلام شعبهم ولم يحققوها لهم في الواقع ، لم يكونوا رجال دولة ، اخترقهم الإستعمار واقعدتهم الطائفية ثم تلبستهم الشيوعية والإسلامية ، فتاهوا بالبلاد سبعين سنة وتوّهوا أهلها في دائرة شيطانية محكمة الإغلاق وكادوا يهلكونهم..
إن محصّلة دساتير السودان المتعاقبة هي أنها كرّست لنظام فاسد من أسفله إلى أعلاه وفي باطنه ومظهره ونجواه ، نظام أفسد على الناس حياتهم كلها ، سياستها ومعاشها وعلاقاتها ، وأنتج جوقة من المهرّجين والمهرّجات والسفيهين والسفيهات صاروا مصدر إلهام للأجيال الصاعدة ، وصاروا هم من يحددون مرتكزات الأمة ويعلنون توجهاتها..
فيا من تكتبون الدساتير..
إتقوا الله في خير شعب..
إتقوا الله في أحسن وطن..
وأرفعوا أقلامكم من على رقابنا..
واتركونا نبدأ الحياة..
ولو لمرة..
بنظام جديد..
وبتأسيس واعٍ..
يأخذ بنا للأمام..
لبناء اُمّة..
تقصد الخير..
وتفرح بالحياة..
وتتطلع للمستقبل..