عادل عسوم يكتب : *وقفات، وتدبرات رمضانية. العام 1446 اليوم التاسع عشر :* *جعفر الدرويش ونوال وليلة القدر*
عادل عسوم يكتب :
*وقفات، وتدبرات رمضانية. العام 1446 اليوم التاسع عشر :*
*جعفر الدرويش ونوال وليلة القدر*
هؤلاء الدراويش ماخلقهم الله الا لخير فيهم يفيض على من حولهم، ولغاية يعلمها هو سبحانه…
لا اخال قرية أو مدينة الا وفيها درويش…
وكم لهذه الشخصية البريئة من بصمات في وجدان الناس…
كنت خلال صباي أظن السبب في وجود هؤلاء الدراويش انتفاء العناية الطبية، لكنني أستبعدت ذلك لاحقا عندما وجدت ذات الشخصية في العديد من دول العالم خلال اسفاري العديدة، وكلها دول لا تفتقر إلى العناية الطبية، تبين لي جليا بأن الأمر قدر مقدور من رحمن رحيم ولسبب لايعلمخ إلا هو جل في علاه،
فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم (أن الله لأرأف بعبده من الشاة بوليدها)، فامتلأتُ يقينا بأن هؤلاء الدراويش أحبابٌ للّه، وفيهم من الأسرار والخبايا ما الله به عليم…
قرأت في صباي كتابا وجدته في مكتبة الوالد رحمه الله للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إسمه (عبيط القرية)، يتحدث الكتاب عن رجل مفعم بالروحانية، وفيه من الإيجاب الكثير في كل حراك يقوم به وهو يتفاعل مع الناس من حوله، ثم قرأت عن شخصية الزين في رواية أديبنا الراحل الطيب صالح رحمه الله (عرس الزين)، الزين الذي ما ان تقع عيناه علي صبية من صبايا القرية إلا ويُلقي الله حبها في قلوب الشباب، فينفتح لها باب الزواج علي مصراعيه!…
واذا بي -من بعد ذلك- كلما قرأت سورة الكهف ومررت على قصة الرجل الصالح وموسي عليهما السلام؛ أتوقف مَلِيّا بين يدي أفعال الخضر عليه السلام؛ من خرق للسفينة، وقتل للغلام، ثم إقامته للجدار!، فالقصة على الرغم من يقيني الراسخ بأنها تحكي عن تفاصيل القضاء والقدر والفرق بينهما؛ إلا إنني تبينت في ثناياها أسرارا ممتدة وعوالم من أنوار ترفرف في فضاءاتها الأرواح بأجنحة من النور…
واسمحوا لي أن أحكي لكم عن قصة نوال وجعفر الدريويش، إنها قصة حدثت في إحدى القرى التي تقع على شاطئ النيل في اتجاه الشمال من قريتي (البركل).
نوال هي الثانية من بعد شقيق يكبرها، وتليها شقيقات خمس، وآخر العنقود جعفر خرج إلى الدنيا بضمور في المخ ليعتاد الناس على تسميته ب(الدريويش) منذ طفولته.
نشأت الأسرة كسواها من الأسر في شمالنا الحبيب على الكفاف، ولم يكن مصير نوال بأفضل من العديد من بنات جيلها خلال السبعينات ممن تركن الدراسة في مراحلها الأولى، وهي وإن تساوت معهن في سمت المسغبة إلا إنها زادت عليهن بطول ملازمتها لأمها طريحة الفراش جرّاء مرض عضال، وما لبث أن سافر شقيقها الأكبر إلى ليبيا وانقطعت أخباره، وعندما طالبتها أدراة المدرسة الثانوية إيفاء مصاريف الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية (على قلتها)؛ لم تستطع لذلك سبيلا، فأخوها الأكبر -قبيل سفره- لم يدع لهم شيئا ليباع ويُنتفع بثمنه، وما بقي بيد والدها من مال لم يعد يكفي قيمة الدواء الذي يبتاعونه كل شهر لأمها…
في ذلك اليوم بكت نوال ما شاء الله لها أن تبكي، فإذا بشقيقها جعفر الدريويش ينظر إليها في محبة مواسيا ويقول:
-لاتبكي يانوال، الله في…
وظل يهزج بها:
اللّه فيه …
اللّه فيه…
اللّه فيه…
أراح ذلك نوال كثيرا، وظلت تردد في نفسها (اللّه في)، إلى أن أرخى عليها النوم سدوله ونامت حيث كانت تصلى على سجادة الصلاة المنسوجة من زعف النخيل.
نوال كانت قد منّت نفسها بأن تصبح يوما معلمة تنير عقول النشئ لتستعين بمدخولها على رفعة شأن أسرتها وكذلك القرية، لكن ذهب كل ذلك ادراج الرياح، وذوى الأمل وتقدم السلام على الميم ليصبح الأمل ألما يعتلج في قلبها سرمدا…
قالت لها أمها يوما:
-أخوكي جعفر دا فيهو سر كبيييير يانوال!…
ماكان من نوال إلا ان قبلت بقدرها وتركت المدرسة مجبرة، وتفرغ لأشغال البيت، ولم تكن تكلّ أو تملّ، بقيت كالشمعة تذوب لتضئ لبقية أفراد الأسرة حياتهم، وانشغلت بممارضة والدتها المصابة بالسرطان، ولم تألُ جهدا في تلبية احتياجات والدها السبعيني الذي ظل على الرغم من وهنه يعمل في فلاحة أرضه الصغيرة، وتناست نفسها مع حراك حياة شقيقاتها الخمس، يضاف إلى ذلك إهتمامها بحياة شقيقها الأصغر جعفر الدريويش، فكانت تحرص على البحث عنه كل مساء لضمان مبيته في البيت، ظلت تفعل كل ذلك بقلب محب وكأنها ام رؤوم…
وبعد عام تزوجت شقيقاتها الخمس على التوالي، ولكن شابت الأفراح الحزن لرحيل والدها،
وانتقلت شقيقاتها مع أزواجهن إلى مدن أخرى في أرجاء هذا السودان الفسيح، ولم تسع نوال إلى الاثقال على شقيقاتها للصرف على المنزل وقد اعتدن إنجاب التوائم، ومعلوم رهق القيام بشؤون التوائم من ارضاع واشراف، وما كان ازواجهن من ميسوري الحال…
سعت نوال إلى البحت عن عمل للصرف على نفسها وأمها وجعفر، فوجدت ضالتها في نسج الطواقي وعمل السلال والبروش من زعف/سعف النخيل، تعينها والدتها -طريحة الفراش- بنقع الزعف في الماء ومناولتها له سعفة سعفة، وشرعت كذلك في صنع الطعمية والزلابية لبيعها لطلبة مجمع المدارس القريب، ووجدت صبيا من الأعراب الوافدين أوكلت له فلاحة الأرض الصغيرة، وظل جعفر بجوارها يعينها بهمة ونشاط وهو يمتطي جريدة نخل يلعب بها وأحايين يرجز بكلمات مدوزنات، وانفرج الحال قليلا، فامتدت هبات نوال وعطاياها إلى شقيقاتها الخمس من (خبيز) وتمور واحتياجات شهر رمضان كل عام، فأصبحت لهم أُمًَّا بديلة كي لا يشعرن بمنقصة دون النساء الأخريات، وبقيت أمها ترقب كل ذلك وهي على فراشها، فترفع كفيها ضارعة إلى الله بأن يعوض نوال وجعفر خيرا…
كانت الابتسامة تزين دوما وجه نوال وهي كالنحلة في حراكها، وعندما يأتي الليل تنشغل بأمها المريضة فلاتنام إلا النذر اليسير من الليل، قال لها جعفر يوما وهو يهزج:
نومك قليل…
نومك قليل…
نومك قليل يانوال.
فسألته، لكن ماذا أفعل ياجعفر؟!
فأشار بيده إلى منزل شيخ وراق المجاور، والذي اعتاد قيام الليل والتلاوة فيصلهم صوته طوال الله،
وفهمت نوال مراده فبدأت تقيم الليل وتقرأ صفحة من كتاب الله كل ليلة، ثم تدعو الله ماشاء لها من دعاء وهي تبلل حِجْرها بدموع الرجاء، وظل الدريويش يرصدها من تحت غطائه وهو يشارك أمه الفراش…
أكملت نوال حفظ كتاب الله خلال سنوات ثلاث، وجاء رمضان الرابع فتفيأت كما اعتادت ظلال العشر الأواخر منه وتزيد من عبادتها وتلاوتها، وفي ليلةٍ وترٍ من لياليه العشر؛ إذا بها ترى كل شئ يخر ساجدا لله، والملائكة تُحَوِّم داخل الغرفة يقرأون سورة الرحمن! …
فهتف بها هاتف:
-يانوال، يانوال…
هذه ليلة القدر، فادعي الله بماشئت.
فاشتد وجيب قلبها، وتعالت منها الأنفاس وكأنها هاجر تهرول المسافات الطوال بين الصفا والمروة، وتلعثم منها اللسان، فإذا بصوت شقيقها جعفر الدريويش يأتيها من عَلٍ:
-يا نوال، قولي:
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، فرددت من خلفه ذلك مرات ثلاث، ونظرت إلى فراش امها فإذا هي نائمة لوحدها، ولم يكن للدريويش من أثر!
هرولت نوال وجِلَة إلى خارج الغرفة، فإذا بجعفر الدريويش يرتفع عن الارض على مستوى بصر الرائي وقد اعتمر له جناحين!..
ياللنور الباهر الذي يشع من وجهه!، وياللابتسامة الوضيئة التي ترتسم على محياه!…
قال لها جعفر -من علٍ- بلغة فصحى لم تعتد سماعها منه وهو يرفرف بجناحيه:
-يانوال، أنا ذاهب إلى ربي لأجاور الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعالي الجنان، وقد سبقتني أمنا قبل قليل، فلا تحزني ياأختاه…
فصاحت به:
-خذوني معكم،
فقال لها وقد تهلل وجهه أكثر:
-لا تحزني يانوال، أدعي الله ياشقيقتي، فإن الله قد كتب لك الرضى والسعادة في الدارين.
فأجابته وهي تبكي:
-لكن ستتركوني وحدي؟!
-لا لن تصبحي وحيدة، ستتزوجين ان شاء الله، وستنجيبين البنين والبنات، ولكن عديني أن تسمي ابنك البكر باسمي، ثم علا واختفى…
عادت نوال إلى الغرفة لتجد والدتها قد فارقت الحياة، فثقل خطوها وسقطت على الأرض ترتعش من هول الموقف، وتذكرت الدعاء الذي أوصاها به الدرويش، فدعت الله به مرارا، واظلمت الدنيا في عينيها…
فتحت نوال عينيها فوجدت نفسها طريحة الفراش وحولها بعض نساء الحي:
-أين أنا؟!
فأجبنها بأنها في المستشفى، وأن الله كتب لها عمرا جديدا بعد أن بقيت غائبة عن الوعي لأيام، وقمن بتعزيتها لوفاة أمها، ثم سمعت بهن يتهامسن ويتواصين بأن لايخبرنها عن اختفاء شقيقها جعفر، فلم تعر ذلك اهتماما لكونها تعلم مكانه يقينا…
واجتمع شملها بشقيقاتها الخمس اللائي جئن لتلقي العزاء ومواساتها في وفاة أمهن واختفاء جعفر، ثم أقبل عيد الفطر، وقبل سفر شقيقاتها تقدم لها قريب لهم يعيش في مدينة بورتسودان وقد توفيت زوجه قبل عامين…
قال (فيصل) الذي قُدِّر له أن يكون زوجا لنوال:
-والله منذ أول ليلة أفضيت فيها إلى نوال؛ بارك الله لي في كل شئ!!!…
كان لي دكان صغير فأصبح لي من المحال التجارية ثلاثا، وما شرعت في صفقة الاّ وبارك الله لي فيها أضعافا مضاعفة!!…
وأصبحت نوال زوجا لأغنى تجار بورتسودان، وأنجبت العديد من الأبناء والبنات، ولم تنس أن تسمي أولهم بأسم جعفر…
ومافتئت يدها ندية بالعطايا إلى شقيقاتها، بل إلى أهل القرية قاطبة.
اللهم اجعلنا جميعا ممن تكرمهم بشهود ليلة القدر.
adilassoom@gmail.com