*بقلم ✍: د. محمد صالح الشيخابي..* *رئيس وزراء “مُعلّب”!*
*بقلم ✍: د. محمد صالح الشيخابي..*
*رئيس وزراء “مُعلّب”!*
كحال غالبية الشعب السوداني، لم أكن أعرف الكثير عن الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء الجديد. لكن، ورغم ذلك، أتمنى له كامل التوفيق والنجاح، فالبلاد تحتاج من ينهض بها، لا من يتصارع على أطلالها. ليس في مسيرته ما يدعو للتفاؤل، غير أن التحديات التي تنتظره، في رأيي، أكبر من فرص النجاح.
لن أناقش هنا صحة تعيين الدكتور إدريس من عدمها.. فالمسألة باتت أمرًا واقعًا. لكنني أجد من المفيد أن نراجع المفاهيم التي نحكم بها على من يتقلّد المناصب العليا، لا سيما منذ الاستقلال وحتى اليوم.
لطالما استندنا إلى أوصاف مثل “مستقل”، “نظيف اليد”، “ليس حزبياً”، “تقي”، “مشهود له بالأخلاق”، “عمل في الخارج في اوروبا و الخواجات ما بعينوا ساي”، وغيرها من السمات التي تبدو في ظاهرها فضائل، لكنها لا تُشكل، وحدها، معايير اختيار رجل الدولة، ناهيك عن رئيس الوزراء… هذه الأوصاف تصلح لمن نبحث له عن وظيفة إمام مسجد، لا من نقترحه لقيادة السلطة التنفيذية في بلد يئن تحت وطأة الحرب والتمزق والفشل السياسي.
قد يُقال: النميري مثلاً مات نظيفًا ولم يمتلك قطعة أرض! جميل، لكن ذلك لا يُعفيه من مسؤولية الانقلاب، وتدمير الاقتصاد، وخنق الحريات، وتصفية الرياضيين بقراراته العشوائية. العفة الشخصية لا تعني الكفاءة، تماماً كما أن الفساد لا يعني بالضرورة الفشل، وإن كنا لا نبرره بأي حال.
يُروى أن الحاكم القوي الفاسق، قوته للأمة وفسقه لنفسه، بينما الحاكم الضعيف التقي، تقواه لنفسه وضعفه بلاء على أمته. المقصود أن التقييم يجب أن ينطلق من المصلحة العامة، لا من التزكية الشخصية.
كثيرًا ما نسمع: دكتور شاطر، فلنعينه وزير صحة! اشتغل في منظمات دولية؟ يصلح وزير خارجية! هذا اختزال ساذج لمفهوم القيادة السياسية. العمل السياسي فنّ، يتطلب تراكمًا معرفيًا وتجريبيًا، لا مجرد شهادات أو وظائف أممية.
ما يجب أن نعتمده من معايير هو التميز الأكاديمي، Academic excellence
والخبرة المهنية، professional experience
والقدرة على العمل تحت الضغط، والرؤية المتكاملة للمؤسسات والدولة. نعم، نريد Technocrats، لكنهم يجب أن يكونوا سياسيين بالمعنى الإداري لا الحزبي، يعرفون دهاليز السلطة، لا أن يتعلموها فوق رؤوس المواطنين.
خذ مثلًا، موظفًا بدأ في الدرجة الرابعة عشرة، ثم تدرّج بجد واجتهاد حتى صار رئيس قسم، فأبدع وطوّر، فرُقّي مديرًا لإدارة، ثم مديرًا عامًا. هذا المسار يُكسبه شرعية وظيفية وخبرة إدارية فعلية، تؤهله للقيادة في الوزارة. لكن ما فوق المدير العام – من وكيل وزارة إلى وزير – فهذه مناصب سياسية لا يجوز أن يشغلها من لم يُصقل داخل مؤسسات الدولة.
رئيس الوزراء، مثله مثل الوزير، لا يُفترض أن يكون قادمًا من المجهول … لا بد أن يكون قد عاش في الوطن، وخبر مؤسساته، وتفاعل مع واقعه، وتدرّج بما يكفي ليعرف مفاتيح الدولة ومزالقها. بل يجب أن يكون قد اختبر الأزمات عملياً، لا عبر تقارير المنظمات.
ثم إن السياسة في السودان، كما يعرف الجميع، ليست مجرد نظريات أكاديمية. بل تحتاج إلى “شفتنة” و فهلوة و شطارة سياسية وفهم عميق للصراعات واللوبيات والتقاطعات. فإن لم يكن رئيس الوزراء سياسياً بالفطرة أو بالتجربة، فعلى الأقل يجب أن يكون محاطًا بـ”أركان حرب” من وكلاء الوزارات ومدراءها العامين و مديري إدارات يملكون هذه الخبرة.
إذا افترضنا أن الرؤية (Vision) مسؤولية رأس الوزارة ( الوزير ) ، فإن التنفيذ مسؤولية مرؤوسيه إبتداء ً من وكيل الوزارة و انتهاءا ً برئيس القسم … ولا تُبنى رؤية على فراغ، بل على مؤسسات وأشخاص يمشون بخطى ثابتة لا عشوائية.
أقول هذا كله، لا توجسا ً من تعيين الدكتور كامل، بل حرصًا على النجاح الذي نرجوه له جميعاً. فالبلاد لا تحتمل المزيد من التجريب أو الرمزية، بل تحتاج إلى قيادة عملية، حاسمة، ومتمرسة.
اتمنى من كل قلبي أن أكون مخطئا ً و ينجح الدكتور كامل و ربما يفعلها و ينجح، و ربما يفاجئنا، فالتاريخ مليء بالمفاجآت. لكن، من حقي كمواطن أن أسأل: من الذي يضع معايير اختيار قادة بلادي؟ وهل نحن بحاجة لرئيس وزراء “معلّب” يحمل كل الصفات المثالية إلا صفتي الفاعلية والخبرة المحلية؟ أم أن الوقت قد حان لنكسر هذه القوالب، ونبحث عن قيادة تمشي على الأرض، لا بين الأسطر؟
د. محمد صالح الشيخابي..
مايو 2025