عمر مختار حاج النور يكتب : *ملاحقة مجرمي مليشيا الدعم السريع دولياً بين الممكن والمأمول (2__3)*
عمر مختار حاج النور يكتب :
*ملاحقة مجرمي مليشيا الدعم السريع دولياً بين الممكن والمأمول (2__3)*

تُعَدُّ النشرةُ الحمراءُ أداةً محوريةً في منظومةِ التعاونِ الشرطيِّ الدوليِّ، وهي عبارةٌ عن تعميمٍ تُصدرهُ الأمانةُ العامةُ لمنظمةِ الشرطةِ الجنائيةِ الدوليةِ (الإنتربول)، بناءً على طلبِ دولةٍ عضوٍ، تطلبُ فيهِ من أجهزةِ إنفاذِ القانونِ في سائرِ الدولِ الأعضاءِ تحديدَ مكانِ شخصٍ ما، وتوقيفهِ توقيفاً مؤقتاً تمهيداً لتسليمهِ للدولةِ الطالبةِ أو لكيانٍ قضائيٍّ دوليٍّ مختصٍّ. وعلى الرغمِ من أنَّ النشرةَ الحمراءَ لا تُمثِّلُ في حدِّ ذاتِها أمرَ قبضٍ دوليٍّ مُلزِمٍ بالمعنى القانونيِّ الدقيقِ، إِلا أَنَّها تُعاملُ كذلكَ من قِبَلِ العديدِ من الدولِ، ويبقى تعاملُ الدولِ الأعضاءِ معها خاضعاً لتشريعاتِها ونُظُمِها القانونيةِ الداخليةِ.
يقتصرُ إستخدام ُ النشراتِ، في معظمِ الحالاتِ، على أجهزةِ إنفاذِ القانونِ والهيئاتِ القضائيةِ المختصةِ ،ومع ذلك، تُجيزُ قواعدُ الإنتربولِ نشرَ مُقتطفاتٍ من النشرةِ الحمراءِ في المواقعِ المفتوحةِ للجمهورِ، وذلك بناءً على طلبٍ مُسبَّبٍ من الدولةِ صاحبةِ الطلبِ، ولا سيما إذا كانتْ هناكَ ضرورةٌ تستدعي مساعدةَ الجمهورِ في تحديدِ مكانِ الشخصِ المطلوبِ، أو عندما يُشكِّلُ بقاءُ هذا الشخصِ طليقاً تهديداً للسلامةِ العامةِ.
تتضمنُ النشرةُ الحمراءُ معلوماتٍ أساسيةً تُساعدُ في التعرفِ على هويةِ الشخصِ المطلوبِ بدقةٍ، مثلَ الاسمِ الكاملِ، وتاريخِ ومكانِ الميلادِ، والجنسيةِ، وأوصافهِ ، وصورتهِ الشخصيةِ، وبصماتِ أصابعهِ إنْ توفرتْ.
كما تشتملُ أيضاً على معلوماتٍ جوهريةٍ تتعلقُ بالجريمةِ المنسوبةِ إليهِ، مثلَ مكانِ وزمانِ وقوعِها، وطبيعتِها القانونيةِ، وملخصٍ موجزٍ للوقائعِ والأدلةِ المبدئيةِ المُتحصَّلِ عليها، والعقوبةِ القصوى المقررةِ للجريمةِ في قانونِ الدولةِ الطالبةِ.
يتمُّ إعدادُ مذكرةِ طلبِ إصدارِ النشرةِ الحمراءِ بواسطةِ المكتبِ المركزيِّ الوطنيِّ للإنتربولِ في الدولةِ الراغبةِ في إصدارِ النشرةِ ،وينبغي أنْ تُعَدَّ هذهِ المذكرةُ بطريقةٍ إحترافية ٍ عاليةٍ، ومع ضرورة إستيفائها شكلاً وموضوعاً لكافةَ المتطلباتِ والشروطِ التي تفرضُها منظمةُ الإنتربولِ لضمانِ جودةِ وموثوقيةِ المعلوماتِ.
بعدَ إستلام ِ الطلبِ، تقومُ الجهاتُ المختصةُ في الأمانةِ العامةِ للإنتربولِ بمراجعتهِ مع المرفقات بدقةٍ، للتأكدِ من إستيفائه ِ لكافةِ معاييرِ وشروطِ المنظمةِ، ولا سيما فيما يتعلقُ بمدى خطورةِ الجريمةِ وتوافرِ الحدِّ الأدنى من الأدلةِ. وقد تمتنعُ الأمانةُ العامةُ عن إصدارِ النشراتِ الحمراءِ في بعضِ الحالاتِ
ومنها على سبيلِ المثالِ:
* الجرائمُ التي يمكنُ أنْ تُثيرَ جدلاً بسببِ صلتِها بمعاييرَ سلوكيةٍ أو ثقافيةٍ خاصةٍ بمجتمعٍ معينٍ ولا تُجرَّمُ عالمياً.
* الجرائمُ التي تتصلُ بالشؤونِ العائليةِ أو الخاصةِ البحتةِ، مثلَ: الطلاقِ، وحضانةِ الأطفالِ، وتعددِ الزوجاتِ (في الدولِ التي لا تُجرِّمُهُ)، والعلاقاتِ الجنسيةِ الرضائيةِ خارجَ إطارِ الزوجيةِ بينَ بالغينَ، والممارساتُ المتعلقةُ بحقوقِ المثليينَ في الدولِ التي تُجرِّمُها.
* الجرائمُ التي تُمثِّلُ انتهاكاً لقوانينَ أو أنظمةٍ إداريةٍ أو تنظيميةٍ بحتةٍ، ما لمْ تُرتكبْ تمهيداً لارتكابِ جريمةٍ خطيرةٍ، أو في حالِ وجودِ ما يحملُ على الشكِّ المعقولِ بأنَّها تتصلُ بنشاطِ جريمةٍ منظمةٍ.
* إذا تعارضَ الطلبُ مع نصوصِ وروحِ الإعلانِ العالميِّ لحقوقِ الإنسانِ، أو غيرهِ من المواثيقِ الدوليةِ الأساسيةِ لحقوقِ الإنسانِ، كحالةِ اللاجئِ السياسيِّ الذي فرَّ من بلدٍ يخشى فيهِ التعرضَ للاضطهادِ أو التعذيبِ.
* إذا جاءَ الطلبُ مخالفاً لنصِّ المادةِ الثالثةِ من النظامِ الأساسيِّ للإنتربولِ، والتي تنصُّ صراحةً على أنَّهُ: “يُحظرُ على المنظمةِ حظراً باتاً أنْ تنشطَ أو تتدخلَ في مسائلَ أو شؤونٍ ذاتِ طابعٍ سياسيٍّ أو عسكريٍّ أو دينيٍّ أو عنصريٍّ”.
قد يتبادرُ إلى الأذهانِ أنَّ وجودَ المادةِ الثالثةِ من النظامِ الأساسيِّ، كأحدِ الأسبابِ المانعةِ من تدخلِ المنظمةِ، قد يُعطِّلُ أو ربما يُبطلُ إجراءاتِ الملاحقةِ الدوليةِ ضدَّ قياداتِ ومنسوبي مليشيا الدعمِ السريعِ وشركائِهم، على اعتبارِ أنَّ الجرائمَ المنسوبةَ إليهم قد تُخالطُها شبهاتٌ سياسيةٌ أو عسكريةٌ.
ولتوضيحِ الصورةِ بشكلٍ أكبرَ، نشيرُ إلى أنَّ المنظمةَ عندما تقررُ التدخلَ في أمرٍ ما أو الامتناعَ عنهُ، فإنَّها تنظرُ إلى جُملةٍ من الاعتباراتِ المتوازنةِ، منها:
* مدى إسهامِ الفعلِ أو الامتناعِ في تحقيقِ شعارِ وأهدافِ المنظمةِ الراميةِ إلى تعزيزِ التعاونِ الشرطيِّ الدوليِّ ومكافحةِ الجريمةِ، والمصلحةِ التي يمكنُ أنْ تعودَ على الدولةِ العضوِ الطالبةِ والمجتمعِ الدوليِّ ككلٍّ.
* يتفقُ الجميعُ على أنَّهُ مهما كانتِ المقاصدُ نبيلةً، ينبغي ألا يكونَ تحقيقُها عبرَ ارتكابِ أفعالٍ إجراميةٍ خطيرةٍ. فمن غيرِ المقبولِ، على سبيلِ المثالِ، أنْ يكونَ مهرُ تحقيقِ هدفٍ سياسيٍّ هو أرواحُ ودماءُ الأبرياءِ الآمنينَ.
* تُراعي المنظمةُ بشكلٍ خاصٍّ مدى اتساقِ واستجابةِ الفعلِ أو الامتناعِ مع أحكامِ ونصوصِ المعاهداتِ والاتفاقياتِ الدوليةِ المُصمَّمةِ لمكافحةِ أنواعٍ معينةٍ من الجرائمِ التي تُصنَّفُ على أنَّها جرائمُ تُشكِّلُ تهديداً جدياً للأمنِ والسلامةِ العامةِ على نطاقٍ واسعٍ، مثلَ: جرائمِ الحربِ، وجرائمِ الإبادةِ الجماعيةِ، والجرائمِ ضدَّ الإنسانيةِ، والجرائمِ الإرهابيةِ، والجريمةِ المنظمةِ العابرةِ للحدودِ، وغيرها من الجرائمِ الخطيرةِ.
ونذكرُ هنا على وجهِ الخصوصِ الاتفاقيةَ الدوليةَ لقمعِ تمويلِ الإرهابِ لعامِ 1999، والعديدَ من الاتفاقياتِ الإقليميةِ والدوليةِ الأخرى المتعلقةِ بمكافحةِ الإرهابِ والجرائمِ المنظمةِ. حيثُ تنصُّ العديدُ من هذهِ الاتفاقياتِ صراحةً على “عدمِ جوازِ اعتبارِ أيِّ جريمةٍ من الجرائمِ المبينةِ في الاتفاقيةِ، جريمةً سياسيةً أو جريمةً متصلةً بجريمةٍ سياسيةٍ أو جريمةً ارتُكبتْ بدوافعَ سياسيةٍ. وبالتالي، لا يجوزُ رفضُ طلبٍ بشأنِ تسليمِ المجرمينَ أو الامتناعُ عن تقديمِ المساعدةِ المطلوبةِ استناداً إلى أنَّ الجريمةَ سياسيةٌ أو تتعلقُ بجريمةٍ سياسيةٍ أو جريمةٍ متصلةٍ بجريمةٍ سياسيةٍ أو ارتُكبتْ بدوافعَ سياسيةٍ”. وقد زادتْ اتفاقيةُ قمعِ تمويلِ الإرهابِ قيداً جديداً يقضي بوجوبِ النصِّ صراحةً على التسليمِ في أيِّ اتفاقيةٍ لتسليمِ المجرمينَ تُصدرُ لاحقاً، مع تعديلِ الاتفاقياتِ الساريةِ قبلَ صدورِها بما يستجيبُ لهذا القيدِ متى كانتِ الجريمةُ المرتكبةُ من الجرائمِ الموصوفةِ في الاتفاقيةِ.
عطفاً على ما تقدَّمَ، نستطيعُ التأكيدَ على إمكانيةِ استجابةِ المنظمةِ لطلبِ السودانِ في ملاحقةِ المطلوبينَ واستردادِهم، متى قُدِّمَ الطلبُ مستوفياً للشروطِ القانونيةِ والفنيةِ، ومُدعَّماً بالأدلةِ الكافيةِ على ارتكابِ جرائمَ دوليةٍ خطيرةٍ لا يمكنُ تبريرُها بأيِّ دوافعَ سياسيةٍ. وهنا نُذكِّرُ بحادثةِ الهجومِ على الخطِّ الناقلِ للنفطِ السودانيِّ بقطاعِ البحرِ الأحمرِ في سبتمبرَ من العامِ 1999، والذي تبنَّاهُ فصيلٌ مسلحٌ معارضٌ للحكومةِ آنذاك. وبطلبٍ ومتابعةٍ من المكتبِ المركزيِّ الوطنيِّ للإنتربولِ بالخرطوم، وافقتِ المنظمةُ على إصدارِ نشراتٍ حمراءَ في مواجهةِ قادةِ ذلكَ الفصيلِ، بإعتبار أنَّ إستهدافَ مشاريعِ البنيةِ الأساسيةِ وتدميرَ مصادرِ الطاقةِ يدخلُ ضمنَ الأعمالِ الإرهابيةِ وفقاً لنصوصِ إتفاقيةِ مكافحةِ الإرهاب ِ، بغضِّ النظرِ عن دوافعِ الجريمةِ ،وقد تمَّ بالفعلِ توقيفُ أحدِ المطلوبينَ وتسليمهُ للسودانِ بواسطةِ دولةٍ، هي ذاتُها التي تُنشط الآن في دعمِ جرائمِ مليشيا الدعمِ السريعِ بإستنفار ِ المرتزقةِ وتجييشها ومدها بالعتاد العسكري تدميرِ مقدراتِ وطنٍ كاملٍ، وليسَ مجردَ بضعةِ أمتارٍ من بنيةٍ تحتيةٍ.
تجدرُ الإشارةُ إلى أنَّ تبادلَ المعلوماتِ وملاحقةَ المطلوبينَ يمكنُ أنْ يتمَّ أيضاً خارجَ مظلةِ الإنتربولِ، وذلك من خلالِ إتفاقيات ٍ ثنائيةٍ أو متعددة الأطراف ،وفي غياب هذه الإتفاقيات يمكن أن يتم ذلك بإعمال المبادئ الدبلوماسيةِ المعروفة ،وذلك ما سنتناوله بمزيدٍ من الشرح والتفصيلِ في الحلقةِ الأخيرةِ من هذه السلسلة بمشيئة اللهِ.
