السفير.د.معاوية التوم يكتب : *السودان في مرآة واشنطن: ثوابت السياسة الأمريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين*
السفير.د.معاوية التوم يكتب :
*السودان في مرآة واشنطن: ثوابت السياسة الأمريكية بين الجمهوريين والديمقراطيين*
مقدمة:
ظل السودان في قلب السياسات الإقليمية والدولية بوصفه نقطة استراتيجية تطل على البحر الأحمر، ومعبراً للموارد إفريقيا ، وصرة ومجالاً لتقاطع المصالح بين القوى الكبرى عربيا وافريقيا . ومن بين هذه القوى، تأتي الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها فاعلاً مؤثراً، لكن ما يلفت النظر هو أن التعامل الأمريكي مع السودان عبر الحقب لم يشهد تحولاً جوهرياً . يُذكر عند انتقال السلطة من الجمهوريين إلى الديمقراطيين. فعلى الرغم من تغير الإدارات، وتعاون السودان مع الكتلتين، بقيت المصالح الأمريكية هي القاعدة الحاكمة دون النظر لمشاغل السودان ، بينما تغيّر الخطاب والأسلوب فقط. ومنذ استقلاله في عام 1956، شكّل السودان أحد الملفات الإقليمية المعقدة في السياسة الخارجية الأمريكية، سواء لاعتباراته الجيوسياسية، أو لارتباطه بصراعات دينية وعرقية ومصالح استراتيجية كبرى. وبينما تتغير الإدارات الأمريكية بتعاقب الجمهوريين والديمقراطيين، يظل الموقف الأمريكي من السودان محكوماً بمجموعة من “الثوابت” التي تتجاوز الولاءات الحزبية، وإن اختلفت في أساليب التعبير والأولويات الظاهرة. هذا المقال نعالج فيه دور السياسة الأمريكية تجاه السودان ضمن ثنائية الاستمرارية والاختلاف الحزبي:
أولاً: ثوابت السياسة الأمريكية تجاه السودان
رغم تغير الوجوه في البيت الأبيض، تتسم السياسة الأمريكية تجاه السودان بعدد من الثوابت التي يمكن تلخيصها في الآتي:
1. أمن البحر الأحمر ومكافحة الإرهاب:
تحرص واشنطن على تأمين الممرات البحرية وشراكات القواعد البحرية المستقبلية ومكافحة الجماعات المتطرفة، وهو ما جعل السودان في قلب الاهتمام الأمني الأمريكي منذ التسعينيات، خاصة بعد استضافة الخرطوم لأسامة بن لادن، وآخرين وارتباطها بحركات إسلامية راديكالية.
2. أمن إسرائيل والتطبيع:
يمثل السودان جزءاً من حسابات واشنطن في تأمين “الهلال الإقليمي” الداعم لإسرائيل. لذلك، لعبت واشنطن دوراً محورياً في دفع السودان نحو التطبيع مقابل رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، من خلال حوار مضني ما تزال آثاره ممتدة.
3. احتواء النفوذ الروسي والصيني:
يشكل التمدد الروسي في البحر الأحمر، خاصة عبر طموحات إنشاء قاعدة في بورتسودان، ووجود استثمارات صينية واسعة، تهديداً للمصالح الأمريكية، ما يدفع واشنطن لتعزيز حضورها في الشأن السوداني.
4. استقرار إقليمي يحمي الحلفاء:
السودان يمثل “قوس عبور” نحو شرق إفريقيا والقرن الإفريقي. وأي انفجار داخلي فيه يهدد استقرار إثيوبيا ومصر وجنوب السودان، وهي دول تمثل أولويات استراتيجية لواشنطن.
ثانياً: المقاربة الجمهورية – الديمقراطية
رغم هذه الثوابت، تختلف آليات التعامل بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي:
1. الجمهوريون: المقاربة الواقعية الصلبة
تركّز الإدارات الجمهورية على ملفات الأمن ومكافحة الإرهاب، وتفضّل دعم الأنظمة الحليفة بغض النظر عن طبيعتها السياسية.
• إدارة ترامب تعاملت ببراغماتية مع السودان بعد (الثورة،) ودفعت نحو التطبيع مع إسرائيل كشرط لإزالة اسم السودان من قائمة الإرهاب، دون أن تعير اهتماماً كبيراً لمسار التحول الديمقراطي.
• لم تكن الديمقراطية أولوية، بل كان الأهم توظيف السودان في هندسة “صفقة القرن الافريقي ” وإعادة ترتيب المنطقة.
2. الديمقراطيون: خطاب حقوقي… بواقعية استراتيجية
تميل الإدارات الديمقراطية، خاصة في الخطاب، إلى التركيز على دعم حقوق الإنسان والحكم المدني، لكنها غالباً ما تتراجع عندما تصطدم هذه المبادئ بالمصالح العليا.
• إدارة بايدن بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، او ما سمي بتصحيح المسار دانت الانقلاب وعلّقت المساعدات، لكنها لم تمارس ضغوطاً حقيقية لإعادة المسار المدني، وظلت حريصة على إبقاء علاقاتها مع الجيش والدعم السريع مفتوحة في مساواة وتوازن مخل.
• خلال الحرب الحالية المفروضة على البلاد ، امتنعت واشنطن عن تصنيف التمرد كجهة إرهابية، وظل خطابها محصوراً في الدعوة إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، ما يعكس تردداً استراتيجياً وتخوفاً من انهيار الدولة بالكامل.
ثالثاً: السودان كحقل اختبار للبراغماتية الأمريكية
تكشف التجربة السودانية عن الوجه “البراغماتي” للسياسة الأمريكية، حيث تتحول الشعارات الديمقراطية إلى أدوات ضغط لا إلى التزامات استراتيجية. لم تكن واشنطن جادة في دعم الانتقال المدني، ولم تستخدم أدواتها النافذة – كالمساعدات، والعقوبات الذكية، والدبلوماسية النشطة – لتقوية قوى الثورة أو تفكيك نفوذ المليشيات.
بل إن الولايات المتحدة كثيراً ما تصرفت برد فعل، لا كفاعلٍ استباقي، فتركت فراغاً ملأته قوى إقليمية أكثر جرأة، كالإمارات وروسيا.
رابعاً: أدوات التأثير وتفاوت التنفيذ
• العقوبات الاقتصادية: استخدمها كلا الطرفين، وإن بنسب متفاوتة.
• الدبلوماسية الناعمة: يميل الديمقراطيون لدعم منظمات المجتمع المدني وتقديم مساعدات مشروطة، بينما يتجه الجمهوريون للدعم الثنائي المباشر.
• التدخل غير المباشر: من خلال دعم دول حليفة (مثل الإمارات والسعودية”منبر جدة”) في التأثير على التحولات داخل السودان.
خامساً: ازدواجية المعايير و”نفاق السياسة”
اللافت في السياسة الأمريكية هو المفارقة الصارخة بين المبادئ المعلنة (مثل دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان) وبين الواقع العملي، حيث:
• تُغض واشنطن الطرف عن الانتهاكات إذا ارتكبها حلفاء يخدمون مصالحها، (الإمارات نموذجا)بحسبانها الطرف الراعي والفاعل الأكبر في مأساة الحرب المفروضة على السودان .
• وتُلوّح بحقوق الإنسان إذا تعلق الأمر بأطراف مناوئة لها أو خرجت من عباءتها. والعقوبات باتجاه السودان لا حد لها ولا سقف ولا مبرر، ونجاح الدولة السودانية او تقدمها لا اهمية له بالمنظور الأمريكي ، ومعاناة شعبه والامه، ينظر اليها بعيون الحاكم لا بالمعايير الانسانية.
خاتمة
السياسة الأمريكية تجاه السودان تكشف عن معادلة معقدة تجمع بين الثوابت الاستراتيجية والاختلافات التكتيكية بين الجمهوريين والديمقراطيين. ففي حين تختلف اللهجة والوسائل، تبقى المصالح العليا – كأمن إسرائيل، ومكافحة الإرهاب، واحتواء المنافسين – محددات أساسية لا تتبدل. ويبقى السودان، للأسف، رهين هذه الحسابات، ما لم ينجح في بناء معادلة داخلية مستقلة تعيد صياغة موقعه في العالم وفقاً لمصالحه الوطنية لا وفقاً لمرآة واشنطن. السياسة لا تعرف المبادئ بل تعرف المصالح .هذا المبدأ لا يكاد يقيد السياسة الأمريكية تجاه السودان عبر تاريخ علاقات البلدين.حتى المصالح لا يضبطها معيار عندما يكون الطرف السودان،ثمة سوء تقدير او شيطنة هي من تسود المرآة الامريكية.لا يهم كثيراً من يحكم البيت الأبيض، سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً، ما دامت الرؤية الاستراتيجية للمنطقة، والسودان ضمناً، تقوم على الثوابت الأمنية والسياسية والاقتصادية ذاتها. وما يُطلب من السودانيين اليوم ليس انتظار الدعم من الخارج، او كيف تنظر اليهم امريكا ، وماذا نتوقع منها ، لأن كل المحاولات الجادة معها لم تجد الآذان الصاغية، بينما يجد السماسرة والحالمين من باعة الأوهام من يسمع لهم في بلادنا. فالأفضل والأبقى أن نعكف على بناء مشروع وطني يستند إلى الإرادة الشعبية ومزاجها الجمعي، والمبادرات الوطنية، لمحاصرة التدخلات الخارجية، من واشنطن أو غيرها، بتوازن العقل والمصلحة والسيادة ومطلوبات الأمن القومي لا غيرها.
⸻
٢٨ مايو ٢٠٢٥م