موسى داؤد يحي يكتب : *كامل إدريس: لحظة ظهور استثنائية وقائد نزل من سماء القيم*
موسى داؤد يحي يكتب :
*كامل إدريس: لحظة ظهور استثنائية وقائد نزل من سماء القيم*
في زمنٍ تنوء فيه البلاد تحت وطأة الحرب، وتتعثر فيه الخطى في دروب الانقسام والتيه، انبعث من بين الركام بصيص أمل تجلّى في شخص استثنائي اختار أن يحمل أمانة الوطن حين عزّ الحاملون. إنّه البروفيسور كامل إدريس، رجل القانون والفكر، والعالِم المعروف دولياً، الذي لم يأتِ إلى الحكم طامعاً، بل جاء إليه مؤتمناً، حاملاً في صدره وجع الوطن، وفي كفّيه مشروع خلاص.
كان ظهوره الأول لحظة لا تُنسى، حين حطّت طائرته في مطار بورتسودان وخرّ ساجداً لله شكراً. لم تكن تلك السجدة مجرّد طقس ديني، بل كانت موقفاً وجدانياً عميقاً لامس مشاعر شعب متدين ومتجذر في التصوف، فكان أول انطباع عنه بمثابة رسالة روحية خالصة اختصرت مسافة الثقة بينه وبين الناس. سجوده ذاك أضاء طريق القلوب قبل أن تُضاء المنصات، وأعطى لمقدمه قدسيةً تتجاوز أعراف السياسة وطقوس البروتوكول.
وفي خطابه الأول بعد أدائه القسم أمام رئيس مجلس السيادة رئيساً للوزراء، لم يخاطب إدريس الشعب بلغة النخبة ولا بمصطلحات بيروقراطية صمّاء، بل افتتح كلماته بحديث نبوي شريف لامس القلوب وخاطب المزاج السوداني المتدين البسيط، متحدثاً بلغة تقطر صدقاً وبلاغة، تستدعي روح الدين وجمال اللغة ونقاء القصد. تحدث باسم الجوعى، والنازحين، والمقاتلين من أجل الكرامة، في نبرة تجلّت فيها روح الوطن وحرقة الغياب الطويل.
وقد يشبّه البعض لحظة ظهوره بتجربة عبد الله حمدوك، لكن الفرق كان بيّناً في الروح والخطاب: فحمدوك اختار لغة رمادية باردة قائمة على حسابات السياسة، أما إدريس فقد اختار درب النور، فأنطق الوجدان السوداني وأعاد للهوية اعتبارها، وللقيم الوطنية نبضها، فظهر الفارق جلياً بين من يتحدث عن الناس، ومن يتحدث إلى الناس.
لم يغفل كامل إدريس الداخل، بل أعلن صراحة دعمه للقوات المسلحة في معركة الوجود والكرامة، واعتبر أن بوصلة المرحلة تتمثّل في الأمن القومي، وهيبة الدولة، ومعاش الناس. كما وجه رسائل واضحة إلى الخارج: إلى من تآمر دعوة للكفّ والاعتذار، وإلى من ساند، رسالة وفاء وشراكة.
خاطب جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة بحكمة دبلوماسية رفيعة دون أن يفرّط في السيادة أو يتنازل عن الكرامة، متقناً فن التوازن ومدركاً أهمية الاحترام المتبادل في زمنٍ تتشابك فيه المصالح وتتقاطع المآسي.
أما في الشأن الاقتصادي، فاختار أن يتحدث بلغة الإنسان لا بلغة الأرقام، متطرقاً إلى دعم المشاريع الصغيرة، وتعزيز الإنتاج الوطني، وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومكافحة الفساد، وجبر ضرر الحرب، وبناء مؤسسات تُدار بالقانون لا بالولاء.
لم يكن خطاب كامل إدريس مجرّد بيان رسمي، بل كان رسالة حب وصدق من رجل عاش السودان فكرةً وحلماً، ثم عاد إليه ليحميه جسداً ومصيراً. قدم مشروعاً وطنياً ينمو من جذور الانتماء، ويكبر في ظلال الحكمة، ويشتد بأمل الناس لا بتكتيكات السياسيين.
قدّم نموذجاً نادراً لقائدٍ تسبق هيبته خطابه، ويجاور فعله أحلام الناس، ويستدعي احترام المراقبين بأسلوبه العلمي، الممنهج، الأخلاقي. لم يأتِ محمولاً على أكتاف الأحزاب المتصارعة، ولا مدججاً بشعارات ممزقة، بل جاء محمّلاً بكتابين ورؤية وتجربة وأخلاق.
في شخص كامل إدريس، يلتقي الوطن بالعقل، ويلتقي الحلم بالخبرة، وتلتقي الدولة بالإنسان. فهو ليس مجرّد رئيس وزراء، بل حامل أمل، ومهندس خلاص، ومرآة لما يجب أن يكون عليه القائد في زمن الانهيار.
وها نحن نكتب عنه، لا لنمجّده، بل لنؤرّخ للحظة نادرة صعد فيها رجل من تراب هذا الوطن ليقول: “أنا معكم، منكم، ولكم”. فاستحق أن يُقدّم للأجيال مثالاً، وأن يُصنّف ضمن كرامات هذا الوطن، لا كأحد رجاله العابرين.
https://www.facebook.com/share/p/1AfTxSWEAp/