تحليل يكتبه د. ياسر محجوب الحسين *خطاب أمل في زمن الحرب: بين الطموح وواقعية النجاة*
تحليل يكتبه د. ياسر محجوب الحسين
*خطاب أمل في زمن الحرب: بين الطموح وواقعية النجاة*
في خطابه التأسيسي، قدم رئيس الوزراء السوداني الجديد، كامل إدريس، ما يمكن وصفه بـمانيفستو أخلاقي-تكنوقراطي. خطاب متماسك لفظيًا، متفائل النبرة، يمزج الطموح الإداري بالمثالية القيمية، والنزعة التحديثية بحنين الوعظ. لكن، ورغم هذه الإيجابيات، يطرح الخطاب أسئلة جوهرية حول واقعيته، وقدرته على التفاعل مع مشهد بالغ التعقيد تحكمه بنادق المليشيات أكثر من أحلام الإدارة الرشيدة.
شخّص رئيس الوزراء بوضوح خمس مشكلات رئيسية تعيق نهضة السودان: غياب الكفاءة، ضعف القيادة، غياب التنمية المتوازنة، استشراء الفساد، وتفشي ثقافة الإقصاء. هذه النقاط، التي لا خلاف عليها ويكاد يجمع عليها كل من خبر الحياة العامة السودانية، تشكل أساسا لتطلعات أي حكومة جادة. ومع ذلك، بدا هذا التشخيص، رغم صوابه، عاما ومكررا ومنفصلاً عن واقع اللحظة الدامي.
هنا يكمن العتاب: فـالحديث عن “المشكلات المتجددة” يتجاهل كارثة راهنة تُهدد بقاء الدولة ذاتها: الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 بعد تمرد مليشيا الدعم السريع على الجيش. لم يرد ذكر لهذه الحرب، لا من قريب ولا من بعيد، وكأن رئيس الحكومة يتحدث عن بلد آخر غير السودان الذي يعيش على وقع دوي المدافع وصراخ النازحين. إن القفز فوق هذا الجرح المفتوح لا يُعد هفوةً عابرة، بل نقطة ضعف فادحة في الرؤية السياسية التي يفترض أن يستند إليها مشروعه. كيف يمكن الحديث عن “العيش الرغيد” و”الانتقال إلى مصاف الدول المتقدمة” و”الأمل” في ظل هذا النزيف؟ الشعارات المطروحة تنتمي لقاموس الإدارة الحديثة، لكنها في الواقع تبدو أقرب إلى البلاغة منها إلى التخطيط الواقعي. السودان اليوم لا يحتاج إلى وعود الرفاه، بل إلى رؤية للنجاة من التهلكة، إلى أجوبة على أسئلة البقاء قبل الازدهار. بلغة أوضح: المطلوب أولا إنقاذ الدولة، ثم يأتي التفكير في ترقيتها.
تحديات الواقع وتطلعات الحكومة
بالإضافة إلى تجاهل الأزمة الأكبر، بدا الخطاب مفرطا في المثالية، مستغرقا في قيم وأخلاق مثل الصدق، والأمانة، والعدل، والشفافية، والتسامح. ورغم أن هذه القيم ضرورية بلا شك، إلا أنها ليست بديلا عن السياسات العامة أو المؤسسات الفاعلة. الأخلاق وحدها لا تكفي لتسيير دولة، خصوصًا في واقع منهار تتقدم فيه منطق الفوضى على منطق القانون.
كما أن إعلان تشكيل حكومة من 22 وزارة، مع وعود بمراجعة الهيئات والمفوضيات الموازية، يتناقض مع مبدأ الرشادة والتقشف الذي تبناه الخطاب نفسه إذ وعد في أسابيع سابقة بأن تكون الوزارة في حدود 16 حقيبة. وفي وقت تفتقر فيه البلاد بشكل أساسي إلى الحد الأدنى من الاستقرار المالي والإداري، يبدو هذا الهيكل الواسع، رغم احتوائه على وزارات ذات طابع حداثي، بعيدا عن قابلية التحقق، لا سيما في ظل فراغ الدولة وانهيار أجهزتها. وهذه الوزراة رغم ترهلها النسبي لم تعطي أهمية لموضوع بناء السلام وجبر اللحمة الاجتماعية.
ورغم أن فكرة الكفاءات المستقلة والدعوة إلى حكومة “لا حزبية” تمثل “الأغلبية الصامتة” فكرة براقة، يبقى الحديث عن حكومة تكنوقراط أقرب إلى التجميل منه إلى التغيير الجذري في التنازع السياسي المكتوم والتحركات المتوترة للسياسيين المتسببين في أزمة البلاد وقد اخذوا فرصتهم كاملة في دفع البلاد إلى الهاوية.
رغم هذه المآخذ، لا يزال هناك بصيص من الأمل. النوايا الطيبة والطموحات الكبيرة والصياغة المرتبة للخطاب لا يمكن إنكارها. إن التركيز على الكفاءة والتنمية المتوازنة ومكافحة الفساد يمثل نقاط انطلاق حاسمة لأي عملية بناء. كما أن الرغبة في بث الطمأنينة الأخلاقية في نفوس المواطنين، وإن جاءت بكثافة توظيف ديني، تعكس وعيًا بحاجة الناس للأمل في زمن اليأس.
يمكننا أن نرى في خطاب كامل إدريس بداية محتملة لإعادة بناء الثقة، إذا ما تبعه عمل جاد يتصالح مع الواقع المرير. الأمل وحده، إذا لم يُرفَد بخريطة طريق شجاعة وواقعية للتعامل مع الحرب أولًا، سرعان ما سيتحول إلى خيبة جديدة في سجل الخيبات الطويل. ولكن، إذا ما تمكن رئيس الوزراء من سد الفجوة بين طموحاته والواقع الميداني، ومعالجة أزمة الحرب كأولوية قصوى، فقد يجد السودان في هذا الخطاب، بعد طول انتظار، نقطة انطلاق نحو النجاة من هذه التهلكة والبدء في مسيرة التعافي.