خبر وتحليل عمار العركي *سد النهضة: أميركا تدير الصراع الإقليمي، لتربح وحدها… ويخسر الجميع.*
خبر وتحليل
عمار العركي
*سد النهضة: أميركا تدير الصراع الإقليمي، لتربح وحدها… ويخسر الجميع.*
▪️أطلق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، تصريحات مثيرة للجدل على منصته “تروث سوشال”، قال فيها إن الولايات المتحدة “مولت بغباء” مشروع سد النهضة الإثيوبي، واصفًا إياه بأنه سد يقلل من تدفق مياه نهر النيل، رغم اعتراض مصر عليه. التصريحات جاءت ضمن منشور استعرض فيه ترامب إنجازاته الدولية التي لم تُمنح – بحسب قوله – التقدير الذي تستحقه.
▪️وفي ردٍّ سريع، نفى وزير المياه والطاقة الإثيوبي، هبتامو إتيفا، عبر منصة “إكس”، ما قاله ترامب، مؤكدًا أن “سد النهضة مشروع محلي بُني بأيدي الشعب ومن أجل الشعب، وليس بمساعدات أجنبية!”.
*أولًا: سد النهضة… من حلم إلى واقع لا يمكن تجاوزه*
▪️شاءت الأطراف الثلاثة أم أبت، فإن سد النهضة أصبح واقعًا لا يمكن إنكاره: تم تشييده وتشغيله وملؤه، وتحول إلى منشأة مائية ضخمة تفرض حضورها الجغرافي والسياسي في منطقة شديدة الحساسية.
▪️وبالتالي، فإن الاستمرار في خطاب الرفض أو الاتكاء على المواقف القديمة لم يعد مجديًا. المطلوب اليوم هو خطاب تفاوضي جديد من كل الأطراف – السودان، مصر، إثيوبيا – يتعامل مع الواقع كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. خطاب يتجاوز منطق المكابرة والتنازع، إلى رؤية تستهدف إدارة السد لمصلحة الجميع، لا إلغاءه لمصلحة طرف واحد.
*ثانيًا: تصريحات ترامب… ما وراء “التمويل الغبي”*
▪️تصريحات ترامب، رغم طابعها الشعبوي، لم تكن خالية من الدلالات الجيوسياسية. حين يقول إن “أميركا موّلت بغباء مشروعًا يقلل تدفق مياه النيل”، فهو يُقر ضمناً بأن واشنطن كانت جزءًا من اللعبة – وربما أحد مهندسيها.
لكن الأهم من مضمون التصريح هو توقيته وطريقته: استعراض انتخابي استعلائي، يُذكّر الجميع بأن الولايات المتحدة كانت – وما تزال – اللاعب الأكبر في هذا الملف، حتى وإن بدت بعيدة. وهنا تُطرح الأسئلة الجوهرية: من الذي خسر فعليًا؟ ومن الذي يربح؟
الجواب الواضح: لم تربح مصر، ولم تحسم إثيوبيا، ولم يستفد السودان… لكن أميركا ربحت، وتربح كلما احتدم النزاع أكثر.
*ثالثًا: السد في الوجدان الإثيوبي… خلف الرد الغاضب*
▪️لم يكن الرد الإثيوبي مجرد نفي دبلوماسي، بل دفاع وجودي عن ما يُعدّه الإثيوبيون رمزًا لنهضتهم الحديثة.
▪️فـ سد النهضة الذي بدأ كحلم شعبي، أصبح مشروعًا وطنيًا جامعًا، وحّد مكونات الشعب الإثيوبي كافة، بمختلف قومياته وتياراته، خلف هدف واحد، هو “الكرامة والسيادة والتنمية”.
▪️ساهم الشعب الإثيوبي في تمويل السد عبر شراء السندات، والتبرعات، والمشاركة المعنوية، في ظل سردية وطنية قوية تقول إن “هذا مشروع إثيوبي خالص”.
▪️ولذلك، فإن أي تلميح بوجود تمويل خارجي – خصوصًا من واشنطن – يُعد في العقل الجمعي الإثيوبي إهانة لكرامة المشروع، وانتقاصًا من أهم لحظة تلاحم شعبي عرفتها البلاد في تاريخها الحديث.
*رابعًا: لحظة للمراجعة.. لا للانفعال*
▪️تصريحات ترامب، ورد فعل أديس أبابا، يجب أن تُقرأ كفرصة. فرصة لمراجعة المسارات، لا لتأجيج الصراعات.
فقد أثبتت السنوات أن لا حل عسكريًا ولا قانونيًا صرفًا لهذا الملف. المراهنة على مجلس الأمن لم تُنتج حلًا، كما أن التفاوض بأساليب تقليدية لم يُثمر اتفاقًا.
▪️ما تحتاجه المنطقة هو إرادة سياسية جديدة، تؤمن بأن المصالح المائية لا تُدار بالعناد أو بالمغالبة، بل بالشراكة والتخطيط المشترك، خاصة أن النيل الأزرق ليس نهرًا إثيوبيًا خالصًا، ولا مِلكًا مصريًا مطلقًا، ولا مجرد ممر عبور للسودان… بل شريان حياة إقليمي، لا يحتمل مزيدًا من الرهانات الخاسرة.
*خلاصة القول وننتهاه :*
▪️إن سد النهضة تحوّل – في غفلة من الجميع – من مشروع تنموي إلى أداة صراع جيوسياسي، تدير خيوطه أطراف خارجية، فيما يواصل أبناء المنطقة خساراتهم المتتالية: مائيًا، سياسيًا، واقتصاديًا.
▪️وإذا كانت تصريحات ترامب قد كشفت شيئًا، فهي أن واشنطن ليست مراقبًا نزيهًا، بل لاعبٌ فاعلٌ يربح كلما طال النزاع، وتعثر التفاهم.
وهنا، لا بد من الاعتراف بالحقيقة المرّة: من يربح اليوم… هو من يحسن إدارة اللعبة، لا من يصرخ في زوايا الخسارة.
▪️لقد آن أوان التفاوض الحقيقي، لا “الحوار الإعلامي”، وآن أوان الشراكة لا الشكوك، والتفكير بالمصالح لا بالمواقف.
ففي سد النهضة، لا منتصر مطلق… إلا لمن يحسن قراءة الخريطة من أعلى، لا من ضفة واحدة فقط.